السبت، 19 نوفمبر 2016

بعد الخمسين

 بعد الخمسين
الشيخ: علي الطنطاوي رحمه الله تعالى

نظرتُ في التقويم فوجدتُ أنّي أستكمل اليوم (23) جمادى الأولى (1379هـ) اثنتين وخمسين سنة قمرية، فوقفتُ ساعة أنظر فيها في يومي وأمسي، أنظر من أمام لأرى ما هي نهاية المطاف، وأنظر من وراء لأرى ماذا أفدتُ من هذا المسير.

وقفتُ كما يقف التاجر في آخر السنة ليجرد دفاتره ويُحرّر حسابه، وينظر ماذا ربح وماذا خسر. وقفتُ كما تقف القافلة التي جُنَّ أهلوها وأخذهم السُّعَار، فانطلقوا يركضون لا يعرفون من أين جاؤوا، ولا إلى أين يذهبون، ولا يهدؤون إلَّا إذا هدَّهم التعب، فسقطوا نائمين كالقتلى! وكذلك نحن إذ نعدو على طريق الحياة؛ نستبق كالمجانين، ولكن لا ندري علامَ نتسابق، نعمل أبدًا من اللحظة التي نفتح فيها عيوننا في الصباح إلى أن يغلقها النعاس في المساء، نعمل كلَّ شيء إلَّا أن نفكر في أنفسنا أو ننظر من أين جئنا وإلى أين المصير! وجردت دفاتري، أرى ماذا طلبتُ وماذا أُعطيت.

طلبتُ المجد الأدبي وسعيتُ له سعيه، وأذهبتُ في المطالعة حِدَّة بصري، وملأتُ بها ساعات عمري، وصرَّمتُ الليالي الطِّوال أقرأ وأطالع، حتى لقد قرأتُ وأنا طالب كتبًا، مِن أدباء اليوم مَن لم يفتحها مرّة لينظر فيها! وما كان لي أستاذ يُبصِّرني طريقي ويأخذ بيدي، وما كان من أساتذتي مَن هو صاحب أسلوب في الكتابة يأخذني باتِّباع أسلوبه، ولا كان فيهم مَن له قدمٌ في الخطابة، وطريقة في الإلقاء يسلكني مسلكه، ويذهب بي مذهبه. وما يُسميه القراء "أسلوبي في الكتابة"، ويدعوه المستمعون "طريقتي في الإلقاء" شيء مَنَّ الله به عليَّ لا أعرفه لنفسي، لا أعرف إلَّا أني أكتب حين أكتب، وأتكلم حين أتكلم، منطلقًا على سجيتي وطبعي، لا أتعمد في الكتابة إثبات كلمة دون كلمة، ولا سلوك طريق دون طريق، ولا أتكلَّف في الإلقاء رنّةً في صوتي، ولا تصنُّعًا في مخارج حروفي.

وكنتُ أرجو أن أكون خطيبًا يهزُّ المنابر، وكاتبًا تمشي بآثاره البُرُد، وكنتُ أحسب ذلك غاية المنى، وأقصى المطالب، فلما نِلته زهدتُ فيه، وذهبتْ مني حلاوته، ولم أعد أجد فيه ما يُشتهى ويُتمنَّى. وما المجد الأدبي؟ أهو أن يَذكرك الناس في كلِّ مكان، وأن يتسابقوا إلى قراءة ما تكتب وسماع ما تُذيع، وتتوارد عليك كتب الإعجاب، وتُقام لك حفلات التكريم؟ لقد رأيتُ ذلك كلَّه، فهل تحبون أن أقول لكم ماذا رأيتُ فيه؟ رأيتُ سرابًا، سرابٌ خادع، قبض الريح!

وما أقول هذا مقالة أديبِ يبتغي الإغراب ويستثير الإعجاب، لا والله العظيم (أحلف لكم لتصدقوا) ما أقول إلَّا ما أشعر به. وأنا من ثلاثين سنة أعلو هذه المنابر، وأحتل صدور المجلات والصحف، وأنا أكلِّم الناس في الإذاعة كلَّ أسبوع مرةٍ من سبع عشرة سنة إلى اليوم، ولطالما خطبتُ في الشام ومصر والعراق والحجاز والهند وأندونيسيا خُطبًا زلزلت القلوب، وكتبتُ مقالاتٍ كانت أحاديث الناس، ولطالما مرَّت أيام كان اسمي فيها على كلِّ لسان في بلدي، وفي كلِّ بلد عشتُ فيه، أو وصلَتْ إليه مقالاتي، وسمعتُ تصفيق الإعجاب، وتلقَّيتُ خطب الثناء في حفلات التكريم، وقرأتُ في الكلام عني مقالاتٍ ورسائل، ودرَسَ أدبي ناقدون كبار ودُرِّس ما قالوا في المدارس، وتُرجم كثير مما كتبتُ إلى أوسع لغتين انتشارًا في الدنيا: الإنكليزية والأردية، وإلى الفارسية والفرنسية، فما الذي بقي في يدي من ذلك كلِّه؟ لا شيء. وإن لم يكتبْ لي الله على بعض هذا بعضَ الثواب أكُنْ قد خرجتُ صفْرَ اليدين!

إني من سنين معتزلٌ متفرّد، تمرُّ عليَّ أسابيع وأسابيع لا أزور فيها ولا أُزار، ولا أكاد أُحدِّث أحدًا إلَّا حديث العمل في المحكمة، أو حديث الأسرة في البيت. فماذا ينفعني وأنا في عُزلتي إن كان في مراكش والهند وما بينهما مَن يتحدّث عني ويمدحني، وماذا يضرُّني إن كان فيها من يذمُّني، أو لم يكن فيها كلِّها مَن سمع باسمي؟! ولقد قرأتُ في المدح لي ما رفعني إلى مرتبة الخالدين، ومن القدح فيَّ ما هبط بي إلى دركة الشياطين، وكُرِّمت تكريمًا لا أستحقُّه، وأهملت، حتى لقد دُعي إلى المؤتمرات الأدبية، وإلى المجالس الأدبية الرسمية المبتدئون، وما دُعيت منها إلى شيء، فألفت الحالين وتعوَّدت الأمرين، وصرتُ لا يزدهيني ثناء، ولا يهزُّ السبُّ شعرةً واحدة في بدني. أسقطتُ المجد الأدبي من الحساب لما رأيتُ أنه وهم وسراب.

وطلبتُ المناصب، ثم نظرتُ فإذا المناصب تكليفٌ لا تشريف، وإذا هي مشقة وتعب لا لذَّة وطرب، وإذا الموظّف أسير مقيِّد بقيود الذهب، وإذا الجزع من عقوبة التقصير أكبر من الفرح بحلاوة السلطان، وإذا مرارة العزل أو الإعفاء من الولاية أكبر من حلاوة التولية. ورأيتُ أني مع ذلك كلِّه قد اشتهيتُ في عمري وظيفة واحدة، سعيتُ لها وتحرَّقتُ شوقًا إليها، هي أن أكون معلمًا في المدرسة الأولية في قرية حرستا، وكان ذلك من أكثر من ثلاثين سنة، فلم أنلها فما اشتهيتُ بعدها غيرها. وطلبتُ المال، وحرصتُ على الغنى، ثم نظرتُ فوجدت في الناس أغنياء وهم أشقياء، وفقراء وهم سعداء.

وَوجدتني قد تُوفي أبي، وأنا لا أزال في الثانوية، وترك أسرةً كبيرةً وديونًا كثيرة، فوفَّى الله الدين وربّى الولد، وما أحوج إلى أحد، وجعل حياتنا وسطًا ما شكونا يومًا عوزًا، ولا عجزنا عن الوصول إلى شيء نحتاج إليه، وما وجدنا يومًا تحت أيدينا مالًا مكنوزًا لا ندري ماذا نصنع به، فكان رزقنا والحمد لله كرزق الطير: تغدو خِماصًا وترجع بِطانًا. فلم أعد أطلب من المال إلَّا ما يقوم به العيش ويقي الوجهَ ذلَّ الحاجة.

وطلبتُ متعة الجسد وصرَّمتُ ليالي الشباب أُفكّر فيها، وأضعتُ أيامه في البحث عن مكانها، وكنتُ في سكرة الفتوة الأولى لا أكاد أُفكّر إلا فيها، ولا أحنُّ إلَّا إليها، أقرأ من القصص ما يتحدث عنها، ومن الشعر ما يُشير إليها. ثم كبرتُ سنّي وزاد علمي، فذهبت السكرة وصحَّت الفكرة، فرأيتُ أنَّ صاحب الشهوة -الذي يسلك إليها كلَّ سبيل- كالعطشان الذي يشرب من ماء البحر، وكلما ازداد شربًا ازداد عطشًا، ووجدتُ أن مَن لا يرويه الحلال يقنع به، ويصبر عليه- لا يرويه الحرام، ولو وصل به إلى نساء الأرض جميعًا. ثم ولَّى الشباب بأحلامه وأوهامه، وفترت الرغبة ومات الطلب، فاسترحتُ وأرحتُ. وقعدتُ أرى الناس، أسأل: علامَ يركضون؟ وإلامَ يسعون؟ وما ثَمَّ إلَّا السراب!

هل تعرفون السراب؟ إنَّ الذي يسلك الصحراء يراه من بعيد كأنّه عينٌ من الماءِ الزُّلال تحدِّقُ صافية في عينِ الشَّمس، فإذا كدَّ الرِّكاب وحثَّ الصِّحابَ ليبلغه لم يلقَ إلَّا التراب. هذه هي ملذَّات الحياة؛ إنَّها لا تلذُّ إلَّا من بعيد.

يتمنَّى الفقير المال، يحسب أنَّه إذا أُعطي عشرة آلاف ليرة فقد حيزت له الدُّنيا، فإذا أعطيها فصارت في يده لم يجد لها تلك اللَّذة التي كان يتصوَّرها، وطمع في مائة الألف، إنَّه يحسُّ الفقر بها، وهي في يده، كما يحسُ الفقر إليها يوم كانت يده خلاءً منها، ولو نال مائة الألف لطلب المليون، ولو كان لابن آدم واديًا من ذهب لابتغى له ثانيًا، ولا يملأ عينَ ابن آدم إلَّا التراب.

والشاعر العاشق يملأ الدنيا قصائد، تسيل من الرِّقة وتفيض بالشُّعور، يعلن أنَّه لا يريد من الحبيبة إلَّا لذَّة النظر ومتعة الحديث، فإذا بلغها لم يجدهما شيئًا، وطلب ما وراءهما، ثمَّ أراد الزَّواج، فإذا تمَّ له لم يجد فيه ما كان يتخيَّل من النعيم، ولذابت صور الخيال تحت شمس الواقع، كما يذوب ثلج الشِّتاء تحت همس الرَّبيع، ولرأى المجنون في ليلى امرأةً كالنساء ما خلق الله النساء من الطين وخلقها -كما كان يُخيَّل إليه- من القشطة، ثمّ لَمَلَّها وزهد فيها، وذهب يجنُّ بغيرها!

ويرى الموظَّفُ الصغيرُ الوزيرَ أو الأميرَ ينزل من سيارته، فيقف له الجندي، وينحني له الناس، فيظن أنَّه يجد في الرياسة أو الوزارة مثل ما يتوهَّم هو من لذَّتها ومتعتها؛ لحرمانه منها، ما يدري أنَّ الوزير يتعوَّد الوزارة، حتَّى تصير في عينه كوظيفة الكاتب الصغير في عين صاحبها. أوهام، ولكننا نتعلَّق دائمًا بهذه الأوهام!

وفكرتُ فيما نلتُ في هذه الدنيا من لذائذ، وما حملتُ من عناء، طالما صبّرتُ النفس على إتيان الطاعة، واجتناب المعصية، رأيتُ الحرام الجميل، فكففتُ النفس عنه على رغبتها فيه، ورأيتُ الواجب الثقيل حملتُ فحملت النفس عليه على نفورها منه، وطالما غلبتني النفس فارتكبتُ المحرمات، وقعدتُ عن الواجبات، تألمتُ واستمتعت، فما الذي بقي من هذه المتعة وهذا الألم؟ لا شيء، قد ذهبت المتعة، وبقي عقابها، وذهب الألم وبقي ثوابه. ولم أرَى أضلَّ في نفسه، ولا أغشَّ للناس ممَّن يقول لك: لا تنظر إلَّا إلى الساعة التي أنتَ فيها، فإنَّ ما مضى فاتَ، والمؤمَّل غيبٌ، ولكَ السّاعةُ التي أنتَ فيها. لا والله؛ ما فات ما مضى، ولكن كُتب لك أو عليك، {أَحْصَاهُا اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة: من الآية 6]، والآتي غيبٌ كالمشاهَد.

وما مَثَل هذا القائل إلَّا كمَثَل راكبِ سفينة أشرفت على الغرق، ولم يبقَ لها إلَّا ساعات، فما أسرع إلى زوارق النجاة إسراع العقلاء، ولا ابتغى طوق النجاة، كما يبتغيه من فاته الزورق، ولكنه عكف على تحسين غرفته في السفينة الغارقة يُزيِّن جدرانها بالصور، ويكنس أرضها من الغبار، يقول لنفسه: ما دامت السفينة غارقة على كلِّ حال، فلِمَ لا أستمتع بساعتي التي أنا فيها؟ يُفسد عمرَه كله بصلاح هذه الساعة، وإذا عرض له العقل يسفِّه عملَه، فليضرب وجه العقل بكأس الخمر التي تعمي عينيه، فلا يبصر ولا يهتدي، وإنَّ من الخمر لخمرة المال وخمرة السلطان!

هذا مثال من يجعل هذه الدنيا الفانية أكبر همِّه، ويزهد في الآخرة الباقية، ولو عقل لزهد في الدنيا. لا يحمل ركوته وعصاه، ويسلك البراري وحيدًا، ولا يُقيم في زاوية ويمدُّ يده للمحسنين؛ فإن هذا هو زُهد الجاهلين، وهو معصية في الدين. إنَّ الزُّهد الحق هو زُهد الصحابة والتابعين، الذين عملوا للدنيا، واقتنوا الأموال، واستمتعوا بالطيِّبات الحلال، وأظهروا نِعَم الله عليهم، ولكن كانت الدنيا في أيديهم لا في قلوبهم، وكان ذِكرَ الله أبدًا في نفوسهم وعلى ألسنتهم، وكانت الأريعة نبراسهم وإمامهم، وكانت أيديهم مبسوطةً بالخير، وكانوا لا يفرحون بالغنى حتى يَبطروا، ولا يحزنون للفقر حتى ييأسوا، بل كانوا بين غنيٍّ شاكر، وفقيرٍ صابر. ومَن يحصِّل المال ويُنفقه في الطاعة خيرٌ ممَّن لا يحصّل ولا ينفق، بل يسأل ويأخذ، ومن يتعلَّم العلم ويعمل به، خيرٌ ممَّن يعتزل الناس للعبادة في زاويةٍ أو مغارة، ومن يكون ذا سلطانٍ ومنصب فيُقيم العدل، ويدفع الظلم، خيرٌ ممّن لا سلطان له ولا عدل على يديه وليست العبادة أن تصفَّ الأقدام في المحاريب فقط، ولكنْ كلُّ معروفٍ تُسدِيه إن احتسبته عند الله كان لك عبادة، وكلُّ مباحٍ تأتيه إن نويت به وجه الله كان عبادة؛ إذا نويت بالطعام التقوِّي على العمل الصالح، وبمعاشرة الأهل الاستعفاف والعفاف، وبجمع المال من حِلِّه القدرة به على الخير، كان كلُّ ذلك لك عبادة، وكلُّ نعمة تشكر عليها، وكلُّ مصيبة تصبر لله عليها كانت لك عبادة.

والإنسان مفطورٌ على الطمع، تراه أبدًا كتلميذِ المدرسة؛ لمَّا بلغ فصلًا كان همُّه أن يصعد إلى الذي فوقه. ولكن التلميذ يسعى إلى غاية معروفة، إذا بلغها وقف عندها، والمرء في الدنيا يسعى إلى شيءٍ لا يبلغه أبدًا؛ لأنَّه لا يسعى إليه ليقف عنده ويقنع به، بل ليجاوزه راكضًا يريد غايةً هي صورةٌ في ذهنه، ما لها في الأرض من وجود! وقد يُعطى المال الوفير والجاه الواسع والصحة والأهل والولد، ثمّ تجده يشكو فراغًا في النَّفْس، وهمًّا خفيًّا في القلب لا يعرف له سببًا، يحسُّ أنَّ شيئًا ينقصه، ولا يدري ما هو، فما الذي ينقصه، فهو يبتغي استكماله؟

لقد أجاب على ذلك رجلٌ واحد؛ رجلٌ بلغ في هذه الدنيا أعلى مرتبة يطمح إليها رجل: مرتبة الحاكم المطلق في ربع الأرض، فيما بين فرنسا والصين، وكان له مع هذا السلطان الصحة والعلم والشَّرف، هو عمر بن عبد العزيز الذي قال: "إنَّ لي نفسًا توَّاقة، ما أُعطيت شيئًا إلَّا تاقت إلى ما هو أكبر: تمنَّت الإمارة، فلمَّا أُعطيَتها تاقت إلى الخلافة، فلمَّا بلغتها تاقت إلى الجنّة".

هذا ما تطلبه كلُّ نفس؛ إنَّها تطلب العودة إلى موطنها الأوَّل، وهذا ما تُحسُّ الرغبة الخفيَّة أبدًا فيه، والحنين إليه، والفراغ الموحِش إن لم تجده.
فهل اقتربتُ من هذه الغاية، بعدما سِرتُ إليها على طريق العمر اثنتين وخمسين سنة؟

يا أسفي! لقد مضى أكثر العمر، وما ادَّخرتُ من الصالحات، ولقد دنا السَّفر، وما تزوَّدتُ ولا استعددتُ، ولقد قَرُبَ الحصاد، وما حرثتُ ولا زرعتُ، وسمعتُ المواعظ ورأيت العِبَر، فما اتَّعظتُ ولا اعتبرتُ، وآن أوانُ التوبة فأجَّلتُ وسوَّفتُ.

اللهم اغفر لي ما أسررتُ، وما أعلنتُ، فما يغفر الذنوب إلا أنت. اللهم سترتني فيما مضى، فاسترني فيما بقى، ولا تفضحني يوم الحساب.

ورحم الله قارئاً قال: آمين.


اختيار موقع الدرر السنية

المصدر: كتاب [من حديث النفسٍ] للشيخ علي الطنطاوي، مراجعة وتصحيح وتعليق مجاهد مأمون ديرانية - دار المنارة، السعودية

--------------
نقله لكم أخوكم:
أبو لقمان الجزائري

نفسك عالم عجيب

نفسك عالم عجيب
الشيخ: علي الطنطاوي رحمه الله تعالى

نفسك عالم عجيب !
يتبدل كل لحظة ويتغير ولا يستقر على حال..
تحب المرء فتراه ملكًاً، ثم تكرهه فتُبصره شيطاناً، وما كان ملكًا ولا كان شيطانًا وما تبدّل! ولكن تبدلت (حالة نفسك).
وتكون في مسرّة فَترى الدنيا ضاحكة، ثم تراها وأنت في كدر باكية قد فرغت في سواد الحداد..
ما ضحكت الدنيا قطّ ولا بكت !ولكن كنت أنت (الضاحك الباكي).

مسكين جداً أنتَ حين تظن أن الكُره يجعلك أقوى، وأن الحقد يجعلك أذكى.. وأن القسوة والجفاف هي ما تجعلك إنساناً محترماً!
تعلّم أن تضحك مع من معك، وأن تشاركه ألمه ومعاناته.. عش معه وتعايش به عش كبيراً، وتعلّم أن تحتوي كل من يمر بك.
ولا تصرخ عندما يتأخر صديقك، ولا تجزع حين تفقد شيئاً يخصك.
تذكر أن كل شيء قد كان في لوحة القدر قبل أن تكون شخصًاً من بين ملايين البشر!

إن خسرت شيئاً فتذكر: أنك قد ربحت أشياء.
وإن فاتك موعد: فتذكر أنك قد تلحق موعداً آخر!
مهما كان الألم مريرًاً، ومهما كان القادم مجهولاً افتح عينيك للأحلام والطموح..
فغدًاً يوم جديد، وغدًاً أنت شخص جديد.

هل تعلم أن الحكمة الشهيرة: "رضا الناس غاية لا تدرك".
دائما يتناقلها الناس مبتورة وغير مكتملة، وأنها بتكملتها من أروع الحكم وهي:
"رضا الناس غاية لا تدرك ورضا الله غاية لا تترك، فاترك ما لا يدرك، وأدرك ما لا يترك".

لايلزم أن تكون وسيما لتكون جميلًا، ولا مداحًا لتكون محبوبًا، ولا غنيًا لتكون سعيدًا..
يكفي أن ترضي ربك وهو سيجعلك عند الناس جميلًا ومحبوبًا وسعيدًا.

لو أصبت 99 وأخطأت مرة واحدة لعاتبوك بالواحدة وتركوا الـ99.. هؤلاء هم البشر!
ولو أخطأت 99 مرة وأصبت مرة لغفر اللہ الـ99 وقبل الواحدة.. ذاك هو ربي!
فما بالنا نلهث وراء البشر ونبتعد عن الله؟ !

  --------
نقله لكم أخوكم:
أبو لقمان الجزائري

قصة أب

قصة أب
الشيخ: علي الطنطاوي رحمه الله تعالى
 
دخل عليّ أمس بعدما انصرف كتّاب المحكمة ولبست معطفي رجل كبير في السن يسحب رجليه سحباً لا يستطيع أن يمشي من الضعف والكبر، فسلّم ووقف مستنداً إلى المكتب، وقال: إني داخل على الله ثم عليك أريد أن تسمع قصتي وتحكم لي على من ظلمني.
قلت: تفضل، قل أسمع.
قال: على أن تأذن لي أن أقعد فوالله ما أطيق الوقوف.
قلت: اقعد وهل منعك أحد من أن تقعد؟ اقعد يا أخي فإن الحكومة ما وضعت في دواوينها هذه الكراسي وهذه الأرائك الفخمة إلا ليستريح عليها أمثالك من المراجعين الذين لا يستطيعون الوقوف. ما وضعتها لتجعل من الديوان (قهوة) يؤمها الفارغون ليشتغل الموظف بحديثهم عن أصحاب المعاملات ويضاحكهم ويساقيهم الشاي والمرطبات والناس قيام ينتظرون لفتة أو نظرة من الـ(بك).
لا، لسنا نريدها (فارسية) كسروية في المحكمة الشرعية فاقعد مستريحا فإنه كرسي الدولة ليس كرسي أبي ولا جدي، وقل ما تريد.

قال: أحب أن أقص القصة من أولها فأرجو أن يسعني صبرك ولا يضيق بي صدرك، وأنا رجل لا أحسن الكلام من أيام شبابي فكيف بي الآن وقد بلغت هذه السن، ونزلت علي المصائب، وركبتني الأمراض، ولكني أحسن الصدق ولا أقول إلا حقاً.
كنت في شبابي رجلاً مستوراً أغدو من بيتي في حارة (كذا) على دكاني التي أبيع فيها الفجل والباذنجان والعنب وما يكون من (خُضر) الموسم وثمراته فأربح قروشاً معدودات أشتري بها خبزي ولحمي وآخذ ما فضل عندي من الخُضر فيطبخه (أهل البيت) ونأكله وننام حامدين ربنا على نعائمه لا نحمل هماً ولا نفكر في غد ولا صلة لنا بالناس ولا بالحكومة ولا نطالب أحداً بشيء ولا يطلب منا شيئاً، ولم أكن متعلماً ولا قعدت في مدرسة ولكني كنت أعرف كيف أصلي فرضي وأحسب دراهمي... ولقد عشت هذا العمر كله ولم أغش ولم أسرق ولم أربح إلا الربح الحلال وما كان ينغّص حياتي إلا أنه ليس لي ولد فجرّبنا الوسائل وسألنا القابلات ولم يكن في حارتنا طبيب ولم نحتج إليه فقد كان لنا في طب (برو العطار) وزهوراته وحشائشه ما يغنينا عن الطبيب والصيدلي.
وإذا احتجنا إلى خلع ضرس فعندنا الحلاق، أما أمراض النساء فمردّ أمرها إلى القابلة ورحم الله أم عبد النافع قابلة الحارة فقد لبثت أربعين سنة تولّد الحاملات ولم تكن تقرأ ولا تكتب.
أقول: إنّا سألنا القابلات والعجائز فوصفن لنا الوصفات فاتخذناها وقصدنا المشايخ فكتبوا لنا التمائم فعلقناها فلم نستفد شيئا، فلم يبق إلا أن ننظر أول جمعة في رجب لنقصد (جامع الحنابلة) فلما جاءت بعثت (أهل البيت) فقرعت حلقة الباب وطلبت حاجتها فنالت طلبها -خرافة دمشقية وثنية من آمن لها أو بأمثالها من الخرزة الزرقاء لرد العين والسحر والشعوذات واعتقد أن لغير الله نفعاً أو ضرراً فيما وراء الأسباب الظاهر فقد خالف الإسلام- فنالت طلبها وحملت.

وصرت أقوم عنها بالثقيل من أعمال المنزل لأريحها خشية أن تسقط حملها وأجرمها وأدللها وصرنا نعدّ الأيام والساعات حتى كانت ليلة المخاض فسهرت الليل كله أرقب الوليد فلما انبلج الفجر سمعت الضجة وقالت (أم عبد النافع): البشارة يا أبا إبراهيم! جاء الصبي.
ولم أكن أملك إلا ريالاً مجيدياً واحداً فدفعته إليها.
وقلّبنا الصبي في فرش الدلال، إن ضحك ضحكت لنا الحياة، وإن بكى تزلزلت لبكائه الدار، وإن مرض اسودّت أيامنا وتنغّص عيشنا، وكلما نما أصبعاً كان لنا عيد وكلما نطق بكلمة جدّت لنا الفرحة وصار إن طلب شيئاً بذلنا في إجابة مطلبه الروح... وبلغ سن المدرسة فقالت أمه: إن الولد قد كبر فماذا نصنع به.
قلت: آخذه إلى دكاني فيتسلى ويتعلم الصنعة.
قالت: أيكون خضرياً.
قلت: ولم لا؟ أيترفع عن مهنة أبيه.
قالت: لا والله العظيم! لا بد أن ندخله المدرسة مثل عصمة ابن جارنا سموحي بك. أريد أن يصير (مأموراً) في الحكومة فيلبس (البدلة) والطربوش مثل الأفندية.
وأصرّت إصراراً عجيباً فسايرتها وأدخلته المدرسة وصرت أقطع عن فمي وأقدم له ثمن كتبه فكان الأول في صفه فأحبه معلموه وقدروه وقدّموه.
ونجح في الامتحان ونال الشهادة الابتدائية فقلت لها: يا امرأة! لقد نال إبراهيم الشهادة فحسبنا ذلك وحسبه ليدخل الدكان.
قالت: يوهْ! ويلي على الدكان... أضيّع مستقبله ودراسته؟! لا بد من إدخاله المدرسة الثانوية.
قلت: يا امرأة من علّمك هذه الكلمات؟ ما مستقبله ودراسته؟ أيترفع عن مهنة أبيه وجده؟ قالت: أما سمعت جارتنا أم عصمة كيف تريد أن تحافظ على مستقبل ابنها ودراسته؟
قلت: يا امرأة اتركي البكوات. نحن جماعة عوام مستورون بالبركة فما لنا وتقليد من ليسوا أمثالنا.
فولولت وصاحت. ودخل الولد الثانوية وازدادت التكاليف فكنت أقدمها راضياً... ونال البكالوريا.
قلت: وهل بقي شيء.
قال الولد: نعم يا بابا. أريد أن أذهب إلى أوروبا.
قلت: أوروبا؟ وما أوربا هذه.
قال: إلى باريس.
قلت: أعوذ بالله تذهب إلى بلاد الكفار والله العظيم إن هذا لا يكون.
وأصر وأصررت وناصرته أمه فلما رأتني لا ألين باعت سواري عرسها وقرطيها وذلك كل مالها من حلي اتخذتها عدة على الدهر ودفعت ثمنها إليه فسافر على الرغم مني.
وغضبت عليه وقاطعته مدة فلم أردّ على كتبه ثم رق قلبي وأنت تعلم ما قلب الوالد وصرت أكاتبه وأساله عما يريد... فكان يطلب دائما.
أرسل لي عشرين ليرة... أرسل لي ثلاثين... فكنت أبقى أنا وأمه ليالي بطولها على الخبز القفار وأرسل إليه ما يطلب.
وكان رفاقه يجيئون في الصيف وهو لا يجيء معهم فأدعوه فيعتذر لكثرة الدروس وأنه لا يحب أن يقطع وقته بالأسفار.
ثم ارتقى فصار يطلب مئة ليرة... وزاد به الأمر آخر مرة فطلب ثلاثمائة.

تصور يا سيدي ما ثلاثمائة ليرة بالنسبة لخضري تجارته كلها لا يساوي ثمنها عشرين ليرة وربحه في اليوم دون الليرة الواحدة؟ ويا ليته كان يصل إليها في تلك الأيام التي رخت فيها الأسعار وقل العمل وفشت البطالة ثم إنه إذا مرض أو اعتل علة بات هو وزوجته على الطوى.
فكتبت إليه بعجزي ونصحته ألا يحاول تقليد رفاقه فإن أهلهم موسرون ونحن فقراء فكان جوابه برقيّة مستعجلة بطلب المال حالاً.
وإنك لتعجب يا سيدي إذا قلت لك أني لم أتلق قبلها برقية في عمري فلما قرع موزع البريد الباب ودفعها إلي وأخذ إبهام يدي فطبع بها في دفتره انخرطت كبدي في الخوف وحسبتها دعوة من المحكمة وتوسلت إليه وبكيت فضحك الملعون مني وانصرف عني، وبتنا بشر ليلة ما ندري ماذا نصنع ولا نعرف القراءة فنقرأ ما في هذه الورقة الصفراء حتى أصبح الله بالصباح ولم يغمض لنا جفن وخرجت لصلاة الغداة فدفعتها لجارنا عبده أفندي فقرأها وأخبرني الخبر ونصحني أن أرسل المبلغ فلعل الولد في ورطة وهو محتاج إليه.
فبعت داري بنصف ثمنها أتسمع يا سيدي؟ بعت الدار بمائتي ليرة وهي كل ما أملك في هذه الدنيا واستدنت الباقي من مرابٍ يهودي دلوني عليه بربا تسعة قروش على كل ليرة في الشهر أي أن المائة تصير في آخر السنة مائتين وثمانية! وبعثت إليه وخبرته أني قد أفلست.
وانقطعت عني كتبه بعد ذلك ثلاث سنوات ولم يجب على السيل من الرسائل التي بعثت بها إليه.
ومر على سفره سبع سنين كوامل لم أر وجهه فيها وبقيت بلا دار ولاحقني المرابي بالدين فعجزت عن قضائه فأقام علي الدعوى وناصرته الحكومة عليّ لأنه أبرز أوراقاً لم أدر ما هي فسألوني: أأنت وضعت بصمة أصبعك في هذه الأوراق.
قلت: نعم. فحكموا علي بأن أعطيه ما يريد وإلا فالحبس. وحبست يا سيدي. نعم حبست وبقيت (المرأة) وليس لها إلا الله فاشتغلت غسّالة للناس وخادمة في البيوت وشربت كأس الذل حتى الثمالة.
ولما خرجت من السجن قال لي رجل من جيراننا: أرأيت ولدك؟ قلت: ولدي؟! بشّرك الله بالخير. أين هو؟ قال: ألا تدري يا رجل أم أنت تتجاهل؟ هو موظف كبير في الحكومة ويسكن مع زوجته الفرنسية داراً فخمة في الحي الجديد.
وحملت نفسي وأخذت أمه وذهبنا إليه وما لنا في العيش إلا أن نعانقه كما كنا نعانقه صغيراً ونضمه إلى صدورنا ونشبع قلوبنا منه بعد هذا الغياب الطويل. فلما قرعنا الباب فتحت الخادمة فلما رأتنا اشمأزت من هيئتنا وقالت: ماذا تريدون؟ قلنا نريد إبراهيم. قالت: إن البك لا يقابل الغرباء في داره اذهبا إلى الديوان. قلت: غرباء يا قليلة الأدب؟ أنا أبوه وهذه أمه.
وسمع ضجتنا فخرج وقال: ما هذا؟ وخرجت من وراءه امرأة فرنسية جميلة.
فلما رأته أمه بكت وقالت: إبراهيم حبيبي؟ ومدّت يديها وهمّت بإلقاء نفسها عليه. فتخلى عنها ونفض ما مسته من ثوبه وقال لزوجته كلمة بالفرنساوي، سألنا بعد عن معناها فعلمنا أن معناها (مجانين).
ودخل وأمر الخادمة أن تطردنا. فطردتنا يا سيدي من دار ولدنا.
وما زلت أتبعه حتى علقت به مرة فهددني بالقتل إذا ذكرت لأحد أني أبوه وقال لي: ماذا تريد أيها الرجل؟ دراهم؟ أنا أعمل لك راتباً بشرط ألا تزورني ولا تقول أنك أبي.
ورفضت يا سيدي وعدت أستجدي الناس وعادت أمه تغسل وتخدم حتى عجزنا وأقعدنا الكبر فجئت أشكو إليك فماذا أصنع.
فقلت للرجل: خبرني أولا ما اسم ابنك هذا وما هي وظيفته.
فنظر إليّ عاتباً وقال: أتحب أن يقتلني.
قلت: إن الحكم لا يكون إلا بعد دعوى؛ والدعوى لا تكون إلا بذكر اسمه.
قال: إذن أشكو شكاتي إلى الله.
وقام يجرّ رجله يائساً... حتى خرج ولم يعد.
 ------------
نقله لكم أخوكم:
أبو لقمان الجزائري

دعوهم وما يقولون

   دعوهم وما يقولون 
للشيخ: علي الطنطاوي رحمه الله تعالى

إن قالوا: "جامدون" فقولوا: نعم، نحن جامدون وأنتم مائعون! إن الماء الجامد كقطعة الألماس التي يبتسم فيها النور، وتقبلها شفاه الشمس، أما المائع فيجري حتى يكون وحلًا تطؤه الأقدام..
فأيُّنا أنقى وأطهر: نحن الجامدون، أم أنتم أيها المائعون؟!

وإن قالوا: "رجعيون" فقولوا: نعم، ولكنها رجعة إلى أيام المجد الذي شدناه على قمة الدهر، والنور الذي أضأناه للزمان؛ ليعرف طريقه إلى الخلود، والحضارة التي دِنَّا بها البشر، وجعلنا بها الإنسان خليقًا بالإنسانية..
فهل تكرهون أن نرجع إلى مثل تلك الأيام؟!

وإن قالوا: "نحن تقدميون" فقولوا: نعم، ولكنكم لا تتقدمون إلا إلى الهاوية، هاوية الانحلال والفساد، تريدون أن تكونوا أحرارًا في غرائزكم، كحرية الديكة والحمير، فمن قرَّبكم من هذه الهاوية، فمن قال لكم: اهتكوا أستار العورات، وارفعوا السجف بين الرجال والنساء، فهو تقدمي، ومن زلَّ لسانه مرة فذكر الدين، أو نطق بكلمة الخلق، أو قال: حلال وحرام، فهو رجعي من الرجعيين.

وإن قالوا: "نحن اشتراكيون" فقولوا: ما رأينا عندكم منها إلا اسمها، تتجملون به في خطبكم ومباحثكم، وتتخذه أحزابكم الهزيلة شبكة تصطاد بها الأصوات يوم الانتخاب!

وإن قالوا: "الروح الرياضية" فقولوا: نعم، ولكن رياضتكم جسد مكشوف بلا روح، والرياضة رياضة النفس قبل رياضة الجسم، وروحها التعاون بإخلاص، والإقرار بالحقِّ، وأن لا يزدهيك النصر، ولا تحطمك الهزيمة، ولا يداخلك اليأس، وأن يكون عليك من نفسك رقيب يحاسبها قبل أن تحاسب، وأن يكون لك من إرادتك قيد لشهواتك، فأين أنتم من هذا كلِّه وأنتم بطَّاشون عند الظفر، خَوَّارون عند الصدمة الأولى، قد تعبدتكم شهواتكم، وتحكَّمت فيكم غرائزكم، ثم إنكم مختلفون متباغضون متحاسدون، لا تعرفون من التعاون إلا أنه كلمة تنطق بها ألسنتكم، وتكذب بها أفعالكم؟

وإن قالوا: "المساواة بين الجنسين" فقولوا: نعم، وسوف نَسُنُّ قانونًا يوجب أن يحبل الرجل مرة، وتحبل المرأة مرة، ويرضع سنة، وترضع هي سنة، وبذلك يتساوى الجنسان، ويجتمع النقيضان، فيصير الرجل امرأة، وتصير المرأة رجلًا، ويتحقق ما تريده الجمعيات النسائية!

وإن قالوا: "أتردُّوننا إلى الوراء وترجعوننا -ونحن في عصر الذرة- إلى غار حراء؟" فقولوا: الحقُّ معكم، إنَّ الزمان ماضٍ إلى الأمام، وكلُّ قديم قد جدَّ في مكانه ما أوجب تركه، لذلك تركتم الدين أولًا، ثم رأيتم العقل أقدم من الدين، فتركتموه وغدوتم من بعده مجانين!

ومهما قالوا من أشباه هذا الهذر، فلا تبالوه ولا تحفلوه، واجعلوا ردَّكم عليهم هزأ به وسخرية بأهله، وأن تبقوا سائرين في طريقكم إلى غايتكم، فإنهم ما يقصدون إلا تعويقكم عنها، وإقامة الأشواك في سبيلكم إليها، وغايتكم يا أيها الشباب المسلمون في السماء، ستركبون إليها الرياح، وتسيرون على هام السحب، ولقد أعدَّت طيارتكم، وهدرت محركاتها، وستمشون على درب من شعاع الشمس، لا على محجة من تراب الأرض، فهل تعوق الأشواك من يشقُّ طريقه في كبد السماء؟

إنهم لا يملكون إلا أن يقولوا فدعوهم وما يقولون.
-------------------------------------
المصدر: فصول في الدعوة والإصلاح للشيخ علي الطنطاوي، جمع وترتيب مجاهد مأمون ديرانية - دار المنارة، السعودية، ط1، 2008هـ "ص 51، بتصرف.
-------
نقله لكم أخوكم:
أبو لقمان الجزائري

الباب الذي لا يُغلق في وجه سائل



يقول الشيخ على الطنطاوي: "أسرد عليكم قصة أسرة أمريكية فيها ستة أولاد، أبوهم فلاح متين البناء قويّ الجسد، ماضي العزم، وأمهم امرأة عاقلة مدبّرة حازمة، فتربى الأولاد على الصبر والاحتمال حتى صاروا رجالاً قبل أوان الرجولة.

وخرج الصغير يوماً يلعب وكان في الثالثة عشرة، فقفز من فوق صخرة عالية، قفزة وقع منها على ركبته، وأحس بألم فيها، ألم شديد لا يصبر عليه ولد مثله، لكنه احتمله وصبر عليه، ولم يخبر أحداً، وأصبح فغدا على مدرسته يمشي على رجله، والألم يزداد، وهو يزداد صبراً عليه، حتى مضى يومان فظهر الورم في رجله وازرقَّ، وعجز أن يخطو عليها خطوة واحدة، فاضطربت أمه، وجزع أبوه، وسألاه عن خبره؟


فأخبرهما الخبر، فأضجعوه في فراشه وجاءوا بالطبيب؛ فلما رآها علم أنه قد فات أوان العلاج، وأنها إن لم تُقطع فوراً مات الولد من تسمم الدم، فانتحى بأبيه ناحية وخبّره بذلك همساً، يحاذر أن يسمع الولد قوله. ولكنّ الولد سمع، وعرف أنها ستقطع رجله فصرخ: "لا، لا تقطعوا رجلي، لا تقطعوا رجلي، أبي أنقذني". حاول أن يقفز على رجل واحدة، ويهرب منهم؛ فأمسك به أبوه وردَّه إلى فراشه، فنادى أمه نداء يقطع القلوب: "أمي، أمي، أنقذيني، أمي ساعديني، لا يقطعوا رجلي".


ووقفت الأم المسكينة حائرة تحس كأن كبدها تتمزق؛ قلبها يدعوها إلى نجدة ابنها، ويفيض حناناً عليه، وحباً له، وعقلها يمنعها ويناديها أن تفتدي حياته برجله، ولم تدر ماذا تصنع؟

فوقفت وقلبها يتفطر ودمعها يتقاطر، وهو ينظر إليها نظر الغريق إلى من ظن أنه سينقذه. فلما رآها لا تتحرك، يئس منها، كما يئس من أبيه من قبل، وجعل ينادي أخاه "إِدغار" بصوت يختلط فيه النداء بالبكاء والعويل: "إِدغار إِدغار، أين أنت يا إِدغار؟ أسرع فساعدني، إنهم يريدون أن يقطعوا رجلي، إدغار إدغار".

وسمع أخوه إدغار وهو أكبر منه بقليل صراخه فأقبل مسرعاً، فشد قامته، ونفخ صدره، ووقف دون أخيه متنمِّراً مستأسداً، وفي عينيه بريق من عزيمة لا تُقهر، وأعلن أنه لن يدع أحداً يقترب منه. وكلمه أبوه، ونصحته أمه؛ وهو يزداد حماسة، وأخوه يختبئ وراءه ويتمسك به، فيشدّ ذلك من عزمه، وحاول أبوه أن يزيحه بالقوّة؛ فهجم على أبيه وعلى الطبيب الذي جاء يساعده. واستأسد واستيأس، والإنسان إذا استيأس صنع الأعاجيب.

ألا ترون الدجاجة إذا هجم أحد على فراخها كيف تنفش ريشها، وتقوم دون فراخها؟
والقطة إذا ضويقت كيف تكشِّر عن أنيابها، وتبدي مخالبها؟
إن الدجاجة تتحول صقراً جارحاً، والقطة تغدو ذئباً كاسراً، و"إدغار" صار رجلا قوياً، وحارساً ثابتاً، يتزحزح الجدار ولا يتزحزح عن مكانه.

وتركوه آملين أن يملَّ أو يكلَّ فيبعد عن أخيه؛ ولكنه لم يتزحزح. وبقي يومين كاملين واقفاً على باب غرفة أخيه يحرسه، لم يأكل في اليومين إلا لقيمات قربوها إليه، ولم ينم إلا لحظات، والطبيب يجئ ويروح، ورجل الولد تزداد زرقة وورماً. فلما رأى الطبيب ذلك نفض يده، وأعلن أنها لم تبق فائدة من العملية الجراحية، وأن الولد سيموت وانصرف، ووقفوا جميعاً أمام الخطر المحدق.

ماذا يصنع الناس في ساعة الخطر؟
إن كل إنسان مؤمناً كان أو كافراً يعود ساعة الخطر إلى الله؛ لأن الإيمان مستقر في كل نفس حتى في نفوس الكفار، ولذلك قيل له: "كافر"، والكافر في لغة العرب "الساتر" ذلك أنه يستر إيمانه ويغطيه، بل يظن هو نفسه أن الإيمان قد فقد من نفسه، فإذا هزّته الأحداث ألقت عن غطاءه فظهر.

قريش التي كانت تعبد هُبل واللات والعزى إنما كانت تعبدها ساعة الأمن، تعبدها هزلاً منها. فإذا جدَّ الجدُّ، وركب القرشيون السفينة، وهاج البحر من حولها بموج كالجبال، وصارت سفينتهم بيد الموج كريشة في كفّ الرياح، وظهر الخطر، وعمّ الخوف؛ بدا الإيمان الكامن في أعماق النفس، فلم تُدْعَ اللات والعزى ولا هاتيك "المَسْخرات". ولكن دعت الله رب الأرض والسماوات، وعندما تغرق السفينة، وتبقى أنت على لوح من الخشب بين الماء والسماء، لا تجد ما تصنع إلا أن تنادي: يا الله.

هذا فرعون الذي طغى وبغى، وتكبّر وتجبر، حتى قال أحمق مقالة قالها إنسان قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات من الآية :24] لما أدرك الغرقُ فرعون قال: {آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس من الآية :90].

وعندما تضل في الصحراء، ويحرق العطش جوفك، وترى الموت يأتيك من كل مكان، لا تجد ما تصنع إلا أن تنادي: يا الله!
وعندما تتعاقب سنوات القحط، ويمتد انقطاع المطر، وفي غمرة المعركة العابسة التي يرقص فيها الموت، وعندما يشرف المريض، ويعجز الأطباء؛ يكون الرجوع إلى الله، هنالك ينسى الملحد إلحاده، والماديُّ ماديته، والشيوعيّ شيوعيّته، ويقول الجميع: يا الله!

لما ذهب الطبيب، واستحكم اليأس، وملأ قلوب الجميع: قلب الولد الخائف، وأخيه المستأسد المتنمّر، وأبيه وأمه، واستشعروا العجز، ولم تبق في أيديهم حيلة، وبلغوا مرتبة "المضطر"، مدّوا أيديهم إلى الله يطلبون منه الشفاء وحده، ويطلبونه بلا سبب يعرفونه، لأنها قد تقطعت بهم الأسباب، والله الذي يشفي بسبب الدواء والطبّ قادر على أن يشفي بلا طب ولا دواء.

مدّوا أيديهم وجعلوا يقولون: يا الله، يدعون دعاء المضطر، والله يجيب دعوة المضطر ولو كان فاسقاً، ولو كان كافراً، ما دام قد التجأ إليه، واعتمد عليه، ووقف ببابه، وعلق أمله به وحده، يُجيب دعوته إن طلب الدنيا، أما الآخرة فلا تُجاب فيها دعوته لأنه كافر لا يؤمن بالآخرة.

هؤلاء كفار قريش لما دعوا الله مخلصين له الدين استجاب دعاءهم، ونجاهم إلى البر، بل هذا شرّ الخلق إبليس لمّا دعا دعاء المضطر قال: {رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر:36]، قال له: {فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ} [الحجر من الآية :37].

ولو أمعنتم النظر في أسلوب القرآن لوجدتم أن الله لم يخبر في القرآن إِخباراً أنه يجيب دعوة المضطر، لأن ذلك مشاهد معلوم، ولكن ذكره حجة على المشركين فقال: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ . أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ . أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [النمل:60-62].

يا أيها القراء، إنهم لما دعوا؛ نظروا فإذا الورم بدأ يخف، والزُّرقة تمحى، والألم يتناقص. ثم لم يمض يومان حتى شفيت الرِجل تماماً، وجاء الطبيب فلم يكد يصدق ما يراه!

ستقولون هذه قصة خيالية أنت اخترعتها وتخيلتها، فما قولكم إن دللتكم على صاحبها؟

إن هذا الولد صار مشهوراً ومعروفاً في الدنيا كلها، وهو الذي روى القصة بلسانه، هذا الولد هو: أيزنهاور القائد العام لجيوش الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، ورئيس أمريكا بعد ذلك.

وقد وقعت لي أنا حوادث رأيتُها وعشتُها، أو وقعت لمن كان حولي سمعتُها وتحققت منها. سنة 1957 مرضت مرضة طويلة لخيانة من طبيب شاب شيوعي وضع لي جرثومة يسمونها العصيّات الزرقاء، قليلة نادرة في بلادنا، وكانت شكواي من حصاة في الكلية أقاسي من نوباتها آلاماً لا يعرف مداها إلا من قاساها. فانضمت إليها أمراض أخرى لم يكن لي عهد بها، وقضيت في المستشفى؛ مستشفى الصحة المركزي الكبير في دمشق، ثم في مستشفى كلية الطب بضعة عشر شهراً أقيم فيه، ثم أخرج منه، ثم أعود إليه.

وكانوا كل يوم يفحصون البول مرتين، وينظرون ما فيه.  فلما طال بي الأمر، وضاق مني الصدر؛ توجهت إلى الله فسألته إحدى الراحتين: الشفاء إن كان الشفاء خيراً لي، أو الموت إن كان في الموت خيرٌ لي. وكان يدعو لي كثير ممن يحبني وإن كنت لا أستحق هذا الحب من الأقرباء ومن الأصدقاء.

فلما توجهت ذلك اليوم إلى الله مخلصاً له نيتي، واثقاً بقدرته على شفائي، سكن الألم، وتباعدت النوبات، وفحصوا البول كما كانوا يفحصونه كل يوم فإذا به قد صفا، وزال أكثر ما كان فيه، وعجب الأطباء واندهشوا. اجتمعوا يبحثون، فقلت لهم: "لا تتعبوا أنفسكم فهذا شيء جاء من وراء طِبِّكم، إن الله الذي أمرنا أن نطلب الشفاء من الطب ومن الدواء قادر على أن يشفي بلا طب ولا دواء".

ولما قدمت المملكة سنة 1382هـ أقمت سنة في الرياض، ثم جئت مكة فلبثت فيها إلى الآن. كان معنا فيها رجل من الشام لا أسميه، كان مقيماً في الرياض هو وأمه، فعرض له عمل اقتضى سفره إلى لبنان. كرهت أمه هذا السفر لئلا تبقى وحدها، فلما حلّ موعده حمل ثقله (أي حقائبه وأشياءه) إلى المطار فسلمه إلى الشركة، وذهب إلى بيته على أن يأتي الفجر ليسافر.

ورجا أمه أن توقظه قبيل الفجر، فلم توقظه حتى بقى لموعد قيام الطيارة ثلاث أرباع الساعة، فقام مسرعاً، وأخذ سيارة، وحثَّ السائق على أن يبلغ به المطار، ويضاعف له الأجر. وجعل يدعو الله أن يلحق بالطيارة قبل أن تطير، ولما وصل وجد أنه لا يزال بينه وبين الموعد ربع ساعة، فدخل المقصف وقعد على الكرسي فنام، ونودي من المكبر على ركاب الطائرة أن يذهبوا إليها، فلم يسمع هذا النداء وما صحا حتى كانت الطيارة قد علت في الجو، وكنت معه، فجعل يعجب كيف دعا الله بهذا الإخلاص دعاء المضطر ولم يستجب له؟

وجعلت أهون الأمر عليه، وأقول له: "إن الله لا يردّ دعوة داعٍ مخلص مضطر أبداً، ولكن الإنسان يدعو بالشر دعاءه بالخير، والله أعلم بمصلحته منه". وأهمّ الغضب والحزن عن إدراك ما أقول، أفتدرون ماذا كانت خاتمة هذه القصة؟
لعل منكم من يذكر طيارة شركة الشرق الأوسط التي سقطت تلك السنة، وهلك من كان فيها: هذه هي الطيارة التي حزن على أنها فاتته.

إن الإنسان قد يطلب من الله ما يضره، ولكن الله أرحم به من نفسه. وإذا كان الأب يأخذ ولده الصغير إلى السوق فيرى اللعبة فيقول: أريدها، فيشتريها له، ويبصر الفاكهة الجميلة، فيوصله إليه، ويطلب الشُّوكولاته فيشتري له ما يطلبه فإذا مرَّ على الصيدلية ورأى الدواء الملفوف بالورقة الحمراء؛ فأعجبه لونه، فطلبه، هل يشتريه له وهو يعلم أنه يضره؟

إذا كان الأب وهو أعرف بمصلحة ولده لا يعطيه كل ما يطلب لأنه قد يطلب ما لا يفيده. فالله أرحم بالعباد من آبائهم ومن أمهاتهم ومن ذويهم.
 -------
نقله لكم أخوكم:
أبو لقمان الجزائري

السعادة

السعادة
للشيخ: علي الطنطاوي رحمه الله تعالى

يحمل الرجلان المتكافئان في القوة الحِمْل الواحد، فيشكو هذا ويتذمر؛ فكأنَّه حمل حملين، ويضحك هذا ويغنِّي؛ فكأنَّه ما حمل شيئًا.
ويمرض الرجلان المتعادلان في الجسم المرض الواحد، فيتشاءم هذا، ويخاف، ويتصور الموت، فيكون مع المرض على نفسه؛ فلا ينجو منه، ويصبر هذا ويتفاءل ويتخيل الصحة؛ فتسرع إليه، ويسرع إليها.

ويُحكم على الرجلين بالموت؛ فيجزع هذا، ويفزع؛ فيموت ألف مرة من قبل الممات، ويملك ذلك أمره ويحكِّم فكره؛ فإذا لم تُنجه من الموت حيلته لم يقتله قبل الموت وَهْمُه.

وهذا "بسمارك" رجل الدم والحديد، وعبقري الحرب والسِّلْم، لم يكن يصبر عن التدخين دقيقةً واحدة، وكان لا يفتأ يوقد الدخينة من الدخينة نهاره كله فإذا افتقدها خلَّ فكرُه، وساء تدبيره.
وكان يومًا في حربٍ، فنظر فلم يجد معه إلا دخينةً واحدة، لم يصل إلى غيرها، فأخَّرها إلى اللحظة التي يشتدُّ عليه فيها الضيق ويعظم الهمّ، وبقي أسبوعًا كاملاً من غير دخان، صابرًا عنه أملاً بهذه الدخينة، فلمَّا رأى ذلك ترك التدخين، وانصرف عنه؛ لأنه أبى أن تكون سعادته مرهونة بلفافة تبْغٍ واحدة.

وهذا العلاّمة المؤرخ "الشيخ الخضري" أصيب في أواخر عمره بِتَوَهُّم أن في أمعائه ثعبانًا، فراجع الأطباء، وسأل الحكماء؛ فكانوا يُدارون الضحك حياءً منه، ويخبرونه أن الأمعاء قد يسكنها الدّود، ولكن لا تقطنها الثعابين، فلا يصدق. حتى وصل إلى طبيبٍ حاذق بالطب، بصير بالنفسيات، قد سَمِع بقصته، فسقاه مُسَهِّلاً وأدخله المستراح، وكان وضع له ثعبانًا فلمّا رآه أشرق وجهه، ونشط جسمه، وأحسَّ بالعافية، ونزل يقفز قفزًا، وكان قد صعد متحاملاً على نفسه يلهث إعياءً، ويئِنُّ ويتوجَّع، ولم يمرض بعد ذلك أبدًا.
ما شفِي الشيخ لأنَّ ثعبانًا كان في بطنه ونَزَل، بل لأن ثعبانًا كان في رأسه وطار؛ لأنه أيقظ قوى نفسه التي كانت نائمةً، وإن في النفس الإنسانية لَقُوًى إذا عرفتم كيف تفيدون منها صنعت لكم العجائب.

تنام هذه القوى، فيوقظها الخوف أو الفرح؛ ألَمْ يتفق لواحد منكم أن أصبح مريضًا، خامل الجسد، واهِيَ العزم لا يستطيع أن ينقلب من جنب إلى جنب، فرأى حيَّة تُقبل عليه، ولم يجد مَنْ يدفعها عنه، فوثب من الفراش وثبًا، كأنَّه لم يكن المريض الواهن الجسم؟

أو رجع إلى داره العصر وهو ساغبٌ لاغبٌ، قد هَدَّه الجوع والتعب، لا يبتغي إلا كُرْسِيًّا يطرح نفسه عليه، فوجد بَرْقِيةً من حبيب له أنه قادمٌ السّاعة من سفره، أو كتابًا مستعجلاً من الوزير يدعوه إليه ليرقيَ درجته، فأحسَّ الخِفّة والشبع، وعدا عدْوًا إلى المحطة، أو إلى مقرِّ الوزير؟
هذه القوى هي منبع السعادة تتفجّر منها كما يتفجّر الماء من الصخر نقيًّا عذبًا، فتتركونه وتستقون من الغدران الآسنة، والسواقي العكرة!

يا أيها القراء: إنكم أغنياء، ولكنكم لا تعرفون مقدار الثروة التي تملكونها، فترمونها زهدًا فيها، واحتقارًا لها.

يُصاب أحدكم بصداعٍ أو مغص، أو بوجع ضرس، فيرى الدنيا سوداء مظلمة؛ فلماذا لم يرها لمّا كان صحيحًا بيضاءَ مشرقةً؟

ويُحْمَى عن الطعام ويُمنع منه، فيشتهي لقمة الخبز ومضغة اللحم، ويحسد من يأكلها؛ فلماذا لم يعرف لها لذّتها قبل المرض؟

لماذا لا تعرفون النِّعم إلا عند فقدها؟
لماذا يبكي الشيخ على شبابه، ولا يضحك الشاب لصِباه؟
لماذا لا نرى السعادة إلا إذا ابتعدت عنَّا، ولا نُبْصِرها إلا غارقة في ظلام الماضي، أو مُتَّشِحةً بضباب المستقبل؟
كلٌّ يبكي ماضيه، ويحِنُّ إليه؛ فلماذا لا نفكر في الحاضر قبل أن يصير ماضيًا؟


أيّها السادة والسيدات: إنّا نحسب الغنى بالمال وحده، وما المال وحده؟

ألا تعرفون قصة الملك المريض الذي كان يُؤْتى بأطايب الطعام، فلا يستطيع أن يأكل منها شيئًا، لمّا نَظَر مِن شبّاكه إلى البستاني وهو يأكل الخبز الأسمر بالزيتون الأسود، يدفع اللقمة في فمه، ويتناول الثانية بيده، ويأخذ الثالثة بعينه، فتمنَّى أن يجد مثل هذه الشهية ويكون بستانيًّا.

فلماذا لا تُقدِّرون ثمن الصحة؟ أَما للصحة ثمن؟

من يرضى منكم أن ينزل عن بصره ويأخذ مائة ألف دولار؟...

أما تعرفون قصة الرجل الذي ضلَّ في الصحراء، وكاد يهلك جوعًا وعطشًا، لما رأى غدير ماء، وإلى جنبه كيس من الجلد، فشرب من الغدير، وفتح الكيس يأمل أن يجد فيه تمرًا أو خبزًا يابسًا، فلما رأى ما فيه، ارتدَّ يئِسًا، وسقط إعياءً؛ لقد رآه مملوءًا بالذهب!

وذاك الذي لقي مثل ليلة القدر، فزعموا، أنه سأل ربَّه أن يحوِّل كلَّ ما مسَّته يده ذهبًا، ومسَّ الحجر فصار ذهبًا؛ فكاد يُجَنّ مِن فرحته لاستجابة دعوته، ومشى إلى بيته ما تسعه الدنيا، وعمد إلى طعامه ليأكل، فمسَّ الطعام، فصار ذهبًا وبقي جائعًا، وأقبلت بنته تواسيه فعانقها فصارت ذهبًا، فقعد يبكي يسأل ربه أن يعيد إليه بنته وسُفرته، وأن يبعد عنه الذهب!

و"روتشلد" الذي دخل خزانة ماله الهائلة، فانصفق عليه بابُها، فمات غريقًا في بحر من الذهب.

يا سادة: لماذا تطلبون الذهب وأنتم تملكون ذهبًا كثيرًا؟
أليس البصر من ذهب، والصحة من ذهب، والوقت من ذهب؟
فلماذا لا نستفيد من أوقاتنا؟ لماذا لا نعرف قيمة الحياة؟

كلَّفتني المجلة بهذا الفصل من شهر، فما زلت أماطل به، والوقت يمرُّ، أيامه ساعات، وساعاته دقائق، لا أشعر بها، ولا أنتفع منها، فكأنها صناديق ضخمة خالية، حتى إذا دنا الموعد ولم يبق إلا يومٌ واحدٌ، أقبلْتُ على الوقت أنتفع به، فكانت الدقيقة ساعة، والساعة يومًا، فكأنها العلب الصغيرة المُتْرعة جوهرًا وتبرًا، واستفدت من كلِّ لحظة حتى لقد كتبت أكثره في محطة (باب اللوق) وأنا أنتظر (الترام) في زحمة الناس، وتدافع الركاب، فكانت لحظة أبرك عليَّ من تلك الأيام كلِّها، وأسِفْتُ على أمثالها، فلو أنِّي فكرت كلَّما وقفت أنتظر (الترام) بشيءٍ أكتبه -وأنا أقف كل يوم أكثر من ساعة متفرِّقة أجزاؤها- لربحت شيئًا كثيرًا.

ولقد كان الصديق الجليل الأستاذ الشيخ "بهجة البيطار" يتردد من سنوات بين دمشق وبيروت، يعلِّم في كلية المقاصد وثانوية البنات فكان يتسلَّى في القطار بالنظر في كتاب ( قواعد التحديث) للإمام "القاسمي"، فكان من ذلك تصحيحاته وتعليقاته المطبوعة مع الكتاب.

والعلامة "ابن عابدين" كان يطالع دائمًا، حتى إنه إذا قام إلى الوضوء أو قعد للأكل أمر من يتلو عليه شيئًا من العلم فأَلّف (الحاشية).
و"السَّرَخْسي" أَمْلَى وهو محبوس في الجبِّ، كتابه (المبسوط) -أَجَلَّ كتب الفقه في الدنيا- وأنا أعجب ممن يشكو ضيق الوقت!

وهل يُضَيِّق الوقت إلا الغفلة أو الفوضى؟

انظروا كم يقرأ الطالب ليلة الامتحان، تروا أنَّه لو قرأ مثله لا أقول كلَّ ليلة، بل كلَّ أسبوع مرة لكان علاّمة الدنيا.

بل انظروا إلى هؤلاء الذين ألّفوا مئات الكتب "كابن الجوزي"، و"الطبري"، و"السيوطي"، و"الجاحظ".

بل خذوا كتابًا واحدًا كـ (نهاية الأرب)، أو (لسان العرب)، وانظروا هل يستطيع واحد منكم أن يصبر على قراءته كلّه، ونسْخه مرة واحدة بخطِّه فضلاً عن تأليف مثله من عنده؟

والذِّهن البشري، أليس ثروةً؟ أما له ثروة؟ أما له ثمن؟ فلماذا نشقى بالجنون، ولا نسعد بالعقل؟ لماذا لا نمكِّن للذّهن أن يعمل؟ ولو عمل لجاء بالمدهشات!

لا أذكر الفلاسفة والمخترعين، ولكن أذكِّركم بشيء قريب منكم، سهل عليكم؛ هو الحفظ.

إنكم تسمعون قصة "البخاري" لمَّا امتحنوه بمائة حديث خلطوا متونها وإسنادها، فأعاد المائة بخطئها وصوابها.

و"الشافعي" لمَّا كتب مجلس مالك بريقه على كفه، وأعاده من حفظه.

و"المعرِّي" لما سَمِع أرْمَنِيَّيْنِ يتحاسبان بِلُغَتهما، فلما استشهداه أعاد كلامهما وهو لا يفهمه.

و"الأصمعي" و"حمَّاد الراوية"  وما كانا يحفظان من الأخبار والأشعار، و"أحمد" و"ابن معين" وما كانا يرويان من الأحاديث والآثار، والمئات من أمثال هؤلاء... فتعجبون، ولو فكَّرتم في أنفسكم لرأيتم أنكم قادرون على مثل هذا، ولكنكم لا تفعلون.

انظروا كم يحفظ كلٌّ منكم من أسماء الناس، والبلدان، والصحف، والمجلات، والأغاني، والنكات، والمطاعم، والمشارب...؟

وكم قصة يروي من قصص الناس والتاريخ؟ وكم يشغل من ذهنه ما يمرُّ به كلَّ يوم من المقروءات، والمرئيات، والمسموعات؟

فلو وضع مكان هذا الباطل علمًا خالصًا، لكان مثل هؤلاء الذين ذكرت.

أعرف نادلاً كان في (قهوة فاروق) في الشام من عشرين سنةً -اسمه "حلمي"- يدور على رُوَّاد القهوة -وهم مئات- يسألهم ماذا يطلبون: قهوة، أو شايًا، أو هاضومًا (كازوزة أو ليمونًا)، والقهوة حلوة ومُرّة، والشاي أحمر وأخضر، و(الكازوزة) أنواع، ثم يقوم وسط القهوة، ويردد هذه الطلبات جهرًا في نَفَسٍ واحدٍ، ثم يجيء بها، فما يخرم مما طلب أحدٌ حرفًا!

فيا سادة: إن الصحة والوقت والعقل، كلُّ ذلك مال، وكلُّ ذلك من أسباب السعادة لمن شاء أن يسعد.

وملاك الأمر كلِّه ورأسه الإيمان، الإيمان يُشبع الجائع، ويُدفئ المقرور، ويُغني الفقير، ويُسَلِّي المحزون، ويُقوِّي الضعيف، ويُسَخِّي الشّحيح، ويجعل للإنسان من وحشته أنسًا، ومن خيبته نُجحًا.

وأن تنظر إلى من هو دونك، فإنك مهما قَلَّ مُرَتّبك، وساءت حالك أحسنُ من آلاف البشر ممن لا يقلُّ عنك فهمًا وعلمًا، وحسبًا ونسبًا.
وأنت أحسن عيشةً من عبد الملك بن مروان، وهارون الرشيد، وقد كانا مَلِكَي الأرض.

فقد كانت لعبد الملك ضرسٌ منخورةٌ تؤلمه حتى ما ينام منها الليل، فلم يكن يجد طبيبًا يحشوها، ويلبسها الذهب، وأنت تؤلمك ضرسك حتى يقوم في خدمتك الطبيب.

وكان الرشيد يسهر على الشموع، ويركب الدوابَّ والمحامل، وأنت تسهر على الكهرباء، وتركب السيارة.

وكانا يرحلان من دمشق إلى مكة في شهرٍ، وأنت ترحل في أيام أو ساعات.

فيا أيها القراء: إنكم سعداء ولكن لا تدرون؛ سعداء إن عرفتم قدر النِّعم التي تستمتعون بها، سعداء إن عرفتم نفوسكم وانتفعتم بالمخزون من قواها... سعداء إن طلبتم السعادة من أنفسكم لا مما حولكم، سعداء إن كانت أفكاركم دائمًا مع الله، فشكرتم كل نعمة، وصبرتم على كل بَلِيَّة؛ فكنتم رابحين في الحاليْن، ناجحين في الحياتيْن.

والسلام عليكم ورحمة الله.

نشر عام 1948م.
-------
نقله لكم أخوكم:
أبو لقمان الجزائري

لا تتزوج ملكة جمال


لا تتزوج ملكة جمال
للشيخ: علي الطنطاوي رحمه الله تعالى

قابلت صديقاً لي فوجدته ضيق الصدر كأن به علة في جسده أو هماً في قلبه؛ فسألته أن يكشف لي أمره، فتأبى ساعة وتردد ثم قال لي: أنت الصديق لا يكتم عنه، وأنى مطلعك على سري، ومستشيرك فيه أني أريد الزواج.

قلت: وما فعلت ربة دارك وأم أولادك؟

قال: هي على حالها.

قلت: وهل أنكرت شيئاً من خلقها أو من دينها أو من طاعتها لك وميلها إليك؟

قال: لا والله.

قلت: فلم إذن؟

قال: إني رجل أحب العصمة وأكره الفجور، وقد ألفت زوجتي حتى ما أجد فيها ما يقنع نفسي عن أن تميل إلى غيرها، وبصري عن أن يشرد إلى سواها، وأطلت عشرتها حتى مللتها وذهبت في عيني فتنتها.

قلت: ما أقبح والله ما جزيتها به عن صحبتها وإخلاصها وما أعجب أمرك تسمع صوت النفس وأن تظنه صوت العقل، وتتبع طريق الهوى وأنت تحسبه سبيل الصلاح، وهذا تلبيس إبليس أو من وساوسه.

وهل تحسب أن المرأة الجديدة تقنعك وتغنيك إن أنت لم تقهر نفسك وتزجرها؟ إن الجديدة تمر عليها الأيام فتصير قديمة، وتطول ألفتها فتصير مملولة، وتستقري جمالها فلا تجد فيها جمالاً فتطلب ثالثة، والثالثة تجر إلى الرابعة، ولو أنك تزوجت مئة، ولو أنك قضيت العمر في زواج لوجدت نفسك تطلب امرأة أخرى.

وهل يمضى زوج عمره في تقبيل وعناق؟ إن لذلك لحظات؟ وباقي العمر تعاون على الحياة وتبادل في الرأي وسعي للطعام واللباس وتربية للولد.. واسترجاع الماضي وإعداد للمستقبل.

وهل تظنك تسعد بين زوجتين وتعرف إن جمعتها ما طعم الراحة؟ وهل تحسب أن ولدك يبقى معك وقد عاديت أمه وصادقت غريبة جئت بها تشاركها مالها ودارها وزوجها؟ فهل يرضيك أن تثير في أسرتك حرباً تكون أنت أول ضحاياها. كلا يا صاحبي لقد تغير الزمان، وحكم الله في التعدد باق أبداً ولكنه مباح؟ ليس واجباً أو مندوباً.. فعليك بزوجك عد إليها وانظر إخلاصها لا تنظر إلى وجهها ولا إلى جسمها فإني قرأت كتباً في تعريف الجمال كثيرة فلم أجد أصدق من تعريف طاغور "إن الجمال هو الإخلاص" ولو أن ملكة الجمال خانتك وغدرت بك لرأيتها قبيحة في عينك، ولو أخلصت لك زنجية سوداء كأن وجهها حذاء السهرة اللماع لرأيتها ملكة الجمال.

وثق أن ما حدثتني به سيبقى سراً بيننا ولا أفشيه أبداً ولا اطلع عليه أحداً، وهل سمعت أديباً (أفشى) سراً؟!
------------
نقله لكم أخوكم:
أبو لقمان الجزائري