الجمعة، 30 سبتمبر 2016

أفلا يتدبرون القرآن

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] فالله عز وجل ينعى على هؤلاء المعرضين عن كتاب الله عز وجل الذين وقع لهم لونٌ من ألوان هجره، وهو هجر التدبر، ومعلوم أن من ترك تدبر القرآن فقد هجره، والله عز وجل لا يرضى بحال من الأحوال أن ينزل كتابًا عظيمًا كهذا الكتاب الذي هو أعظم الكتب ثم بعد ذلك نهجره، وهذا لا يليق والله بحال من الأحوال أن يصدر ممن آمن بهذا القرآن، وآمن بمنزل هذا القرآن، وعرف هذه المعاني التي احتوى عليها هذا القرآن، والله عز وجل أخبرنا أن هذا الكتاب أنه كتاب عزيز، ومن عزته أن معانيه الطيبة وما فيه من الكنوز والمعارف لا تنفتح ولا تدخل في القلوب المعرضة عنه، فهذا من عزة القرآن، ولهذا يقول شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله معلقًا على قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلبٌ ولا صورة» [1] يقول: "فكذلك إذا كانت القلوب تحمل أخلاق الكلاب فإن الملائكة لا تدخلها بالمعاني الطيبة"، فإذا كانت القلوب مشغولة باللهو واللغو والعبث فأنى لها أن تفقه معاني القرآن.
فأين نحن من هؤلاء؟


أين نحن من ذلك الأعرابي الذي يعيش في الصحراء حينما سمع قارئًا يقرأ قول الله تبارك وتعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94] فسجد، فقيل له: على أي شيء سجدت؟ قال: سجدت لفصاحته، والله عز وجل أخبر عن المؤمنين بهذا القرآن أنهم: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} [مريم:58]. وهذا لا يمكن أن يحصل لأقوام إلا بعد أن يعرفوا معاني هذا الكتاب العظيم، ولهذا يقول ابن جرير الطبري رحمه الله كبير المفسرين: "عجبت لمن يقرأ القرآن وهو لا يعرف معانيه كيف يلتذ بقراءته؟".

ثم انظر إلى تلك الجارية التي سمعها إمام كبير من أئمة أهل اللغة وهو الأصمعي رحمه الله سمعها تردد بيتًا أو بيتين فقال: قاتلكِ الله ما أفصحك! فقالت: أفصح مني من جمع في آية واحدة بشارتين، وأمرين، ونهيين تعني قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} [القصص:7] فهذان أمران {وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي} فهذان نهيان {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} هذا خبر وبشارة {وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}، وهذا أيضاً خبر وبشارة، فانظر إلى هذه الجارية الصغيرة التي ردت على من أعجب بشعرها وبفصاحتها بهذا الرد الذي يدل على لطافة في الفهم، ودقة في الاستنباط.


فأين نحن من هؤلاء؟ أين نحن من تدبر هذه الآيات التي نسمعها في هذه الصلاة وفي غيرها؟


لو تدبرنا القرآن:
الآية التي بعد هذه مباشرة الله عز وجل يقول فيها: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:83]، فانظر إلى هذا التوجيه وهذه التربية القرآنية للمؤمنين، فلو تدبرنا هذا القرآن لصلحت أحوالنا في السلم والحرب، لو تدبرنا القرآن لما صدقنا الشائعات والأخبار الكاذبة التي يروجها إعلام العدو ليكسر بها نفوس المؤمنين، وليصيبهم بالخذلان والذل والهزيمة النفسية، ليكون ذلك توطئة للهزيمة العسكرية، ومع هذا نحن نتلقف هذه الأخبار ونرددها في المجالس وكأنها أخبار قد تنزلت من فوق سبع سماوات.


ثم انظر إلى التوجيه الذي بعده في قوله تبارك وتعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء:102] انظر هذا القرآن كيف يربي المؤمنين على أمرين كبيرين هما سببًا الانتصار في أرض المعركة:

1- الصلة بالله عز وجل.
2- وصلاة الجماعة حتى في حال المسايفة في حال مواجهة العدو، وإعداد القوة الممكنة لقهر هذا العدو ودحره {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء:102] فلا يقول قائل: نحن جند الله، نحن أوليائه، لا نحتاج ونحن في هذا المقام الذي نناجيه فيه لحمل السلاح، لا، تصلُّون بهذه الهيئة ومعكم أعظم شخصية وجدت في التاريخ وهي شخصية رسول الله  صلى الله عليه وسلم، ومعكم أحب الخلق إلى الله تبارك وتعالى ومع ذلك أنتم بحاجة إلى هذه الصلاة، وبهذه الكيفية من أجل أن لا يغير عليكم هذا العدو، أين نحن من هذا التوجيه؟ كيف ينتصر المسلم الذي يدعي الإسلام وهو يقابل عدوه وفي يده قارورة من الخمر؟ وفيه يده الأخرى قطعة سلاح؟ أين هؤلاء من الانتصار؟ لا يمكن أن ينتصر إلا من أخذ بهذه التوجيهات الربانية.


ثم انظر ماذا قال الله بعدها: {وَلا تَهِنُوا} [النساء:104] لا تضعفوا، {فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ} [النساء:104] في طلبهم وتتبعهم، وقتلهم وإزهاق أرواحهم {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء:104] إن كنتم تقاسون الحر فهم يقاسون الحر، وإن كنتم تقاسون البرد فهم يقاسون البرد، وإن كنتم تقاسون الجوع فهم يقاسون الجوع، وإن كنتم تقاسون طول الشقة فهم يقاسون طول الشقة، وإن كنتم تقاسون آلام الجراح والأسر فهم يقاسون آلام الجراح والأسر، ومع ذلك يميزكم عنهم شيء واحد {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104]. لسنا سواء قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار..


فإذا كان الأمر بهذه المثابة فلماذا يتردد المؤمن؟ ولماذا يتوقف؟ ولماذا يحزن إذا وقع في أسر العدو؟ أو وقع عليه قهرٌ من هذا العدو الكافر؟ فلماذا يحزن؟ ولماذا ينكسر؟ والله عز وجل يقول في تعزية لطيفة شفافة رقيقة يحتاج الإنسان أن يقف عندها طويلاً يقول الله عز وجل في سورة آل عمران: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران:139-140] ليعلم الذين آمنوا ثبتوا على مواقفهم وعلى إيمانهم الصحيح {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ هؤلاء القتلى وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ . وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:140-141]، {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].

أين نحن من هذه التوجيهات؟ والله لو أخذنا بها لما استطاعت أكبر قوة على وجه الأرض أن تقف في وجوه المسلمين، لو أخذ بها ثلة قليلة من هذه الأمة، وتمسكوا بها حقًا لدوخوا العالم من شرقه إلى غربه، ولما استطاع أحدٌ أن يقف في وجوههم، ولكنها للأسف أمة مبعثرة لعب بها شياطين الإنس وشياطين الجن، وأضلوها عن كتابها فمزقت وصارت مثلاً يضرب به في الضعف والاستخذاء والمذلة، صارت هذه الأمة هي التي تقع عليها المذابح في كل مكان، وصارت هذه الأمة هي أحط الأمم..

وإذا تأملت من المحيط إلى المحيط رأيت أن ما وراء ذلك غربًا وما وراءه شرقًا هي الدول الصناعية، هي الدول التي يسمونها الدول الكبرى الغنية، وهي الدول التي تتحكم في مصير الشعوب، ومصائر العالم، وإذا نظرت إلى ما بين ذلك لا تجد مثالاً واحدًا تستطيع أن تقول: إنه قد فارق هذه المجموعة فصار يضاهي تلك الدول في التقدم والصناعة والابتكار، والأخذ بأسباب القوة، ومناطحة القوى العظمى، فيُحسب له ألف حساب حينما يريدون أن يبرموا أمرًا، أو يقرروا قرارًا، من المحيط إلى المحيط، البلاد الإسلامية هي البلاد التي يقال لها: بلاد العالم الثالث، وما وراء ذلك غربًا وشرقًا كله خارجٌ عن هذا الحكم، فلماذا وقد كان المسلمون يقودون العالم بأجمعه؟ لأننا أعرضنا عن هذا القرآن، وفي النفس أشياء وأشياء مما قرأه الإمام، ولكني أترك ذلك مخافة الإطالة عليكم، وأسأل الله عز وجل أن يرعانا وإياكم، وأن ينفعنا بالقرآن العظيم، وأن يجعلنا وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
 
الشيخ: خالد بن عثمان السبت
http://www.khaledalsabt.com/
________________________
 
[1] أخرجه ابن ماجه في كتاب اللباس باب: الصور في البيت [2/1203] برقم: [3650]  وهو في صحيح الجامع برقم: [1963].
-------------------------------
نقله لكم:
أبو لقمان الجزائري

وقفات مع قوله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ}



بسم الله الرحمن الرحيم
وقفات مع قوله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:1].
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وبعد:
الوقفة الأولى: (1) الإلهاء: الصرف إلى اللهو، من (لهى) إذا غفل، وكل شيء شغلك عن شيء فقد ألهاك.
يقال: لهى بالشيء، أي: اشتغل به، ولهى عنه إذا انصرف عنه، وهو صرف الهم بما لا يحسن أن يُصرف به من الإعراض عن الحق، والاشتغال بالمتع العاجلة عن الدار الباقية، والميل عن الجد إلى الهزل.
وبالجملة فكل باطل شغل عن الخير وعما يعني فهو لهو.

وبهذا تعلم أن كل ما أشغل المرء عما يعنيه ويهمه فهو لهو، وعليه فهو ملازم للغفلة -وقد فسره بعضهم بها- وإن كان شائعاً في كل شاغل، وقيده بعضهم بالشاغل الذي يسر المرء، وهو قريب من اللعب.
الوقفة الثانية: قرن الله بين اللهو واللعب في آيات من كتابه كقوله: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [الأنعام من الآية:32].


وقوله: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} [العنكبوت من الآية:64].
وقوله: {إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد من الآية:36].
وقوله: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ..} [الحديد من الآية:20].
وقوله: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا} [الأنعام من الآية:70].
وقوله: {الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الأعراف من الآية:51]، والعطف يقتضي المغايرة، وقد تعرض العلماء لبيان الفرق بين اللهو واللعب (2)

فقال بعضهم: اللهو: "صرف الهم بما لا يحسن أن يُصرف به".
واللعب: "طلب الفرح بما لا يحسن أن يطلب به".
وقيل: اللهو: "الاستمتاع بلذات الدنيا".
واللعب: "العبث".

وقيل: اللهو: "الميل عن الجد إلى الهزل".
واللعب: "ترك ما ينفع بما لا ينفع".
وقيل: اللهو: "الإعراض عن الحق".
واللعب: "الإقبال على الباطل".

وقال العسكري: "الفرق بين اللهو واللعب: أنه لا لهو إلا لعب، وقد يكون لعب ليس بلهو؛ لأن اللعب يكون للتأديب... ولا يقال لذلك لهو، وإنما اللهو لعب لا يعقب نفعاً، وسُمِّي لهواً؛ لأنه يشغل عما يعني، من قولهم: ألهاني الشيء، أي: شغلني، ومنه قوله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:1]" (أ.هـ)، (3).

ومن تأمل هذه الأقوال تبين له مدى التقارب بين معنى اللهو واللعب، ولعل من أحسن الفروقات بينهما ما ذكره الحافظ شمس الدين ابن القيم رحمه الله من أن اللهو للقلب، واللعب للجوارح، قال: "ولهذا يجمع بينهما" اهـ (4)
الوقفة الثالثة: (5) قوله: {أَلْهَاكُمُ}: أبلغ في الذم مما لو قال: "شغلكم" لعدم التلازم بين اللهو والاشتغال؛ ذلك أن الإنسان قد يشتغل بالشيء بجوارحه وقلبه غير لاهٍ به، بينما اللهو ذهول وإعراض.

الوقفة الرابعة: (6) اللهو عن الشيء إن كان بقصد فهو محل التكليف، وإن كان بغير قصد كقوله صلى الله عليه وسلم في الخميصة: «إنها ألهتني عن صلاتي» (7)، كان صاحبه معذوراً، وهو نوع من النسيان.
الوقفة الخامسة: (8) التكاثر: التباهي بالكثرة من المال والجاه والولد وغير ذلك مما سيأتي، فهو تفاعل من الكثرة.

والتفاعل يقع على أحد وجوهٍ ثلاثة:
الأول: أن يكون بين اثنين فأكثر، فيكون من باب المفاعلة.
الثاني: أن يكون من فاعل واحد لكن على سبيل التكلف، تقول: تحاملت على كذا، وتباعدت عن كذا، وتعاميت عن الأمر وتغافلت عنه.

الثالث: أن يراد به مطلق الفعل، كما تقول: تباعدت عن الأمر أي بعدت عنه.
والتكاثر هنا يحتمل الوجهين الأولين، فيحتمل التكاثر بمعنى المفاعلة؛ لأنه تم من اثنين يقول كل واحد منهما لصاحبه: {أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف:34]، ويحتمل تكلف الكثرة وتطلبها، فإن الحريص يتكلف جميع عمره تكثير ماله مثلاً.

الوقفة السادسة: (9) لم يعين سبحانه وتعالى المتكاثر به بل ترك ذكره؛ إما لأن المذموم هو نفس التكاثر بالشيء، لا المتكاثر به، كما يقال: شغلك اللعب واللهو، ولم يذكر ما يلعب ويلهو به، وإما لإرادة العموم؛ لأن حذف المقتضى يدل عليه كما تقرر في علمي الأصول والبيان (10)، ولا يخفى أن العموم والإطلاق أبلغ في الذم؛ لأنه يذهب فيه الوهم كل مذهب فيدخل فيه جميع ما يحتمله المقام مما يتكاثر به المتكاثرون ويفتخر به المفتخرون من الأموال والأولاد والخدم والجاه والأعوان وغير ذلك مما يُقصد بالمكاثرة، وليس المقصود منه وجه الله كما سنبين في الوقفة السابعة.
الوقفة السابعة: يدخل تحت العموم المشار إليه كل ما يتكثَّر به العبد أو يكاثر به العبد أو يكاثر به غيره سوى طاعة الله.

قال ابن القيم رحمه الله: "التكاثر في كل شيء، فكل من شغله وألهاه التكاثر بأمر من الأمور عن الله والدار الآخرة فهو داخل في حكم هذه الآية، فمن الناس من يلهيه التكاثر بالمال، ومنهم من يلهيه التكاثر بالجاه أو بالعلم، فيجمعه تكاثراً أو تفاخراً، وهذا أسوأ حالاً عند الله ممن يكاثر بالمال والجاه؛ فإنه جعل أسباب الآخرة للدنيا، وصاحب المال والجاه استعمل أسباب الدنيا لها وكاثر بأسبابها" (أ.هـ)، (11).

ومعلوم أن التكاثر والتفاخر إنما يكون بالأمور التي يتوسل بها إلى تحقيق السعادة مطلقاً، سواءً كانت عاجلة أم آجلة، وسنقصد الحديث في هذه الوقفة على السعادة العاجلة؛ لأنها المقصودة في التكاثر المذموم.
أما المطلوبات التي يتهافت عليها المتهافتون توسلاً إلى السعادة القريبة الفانية فهي نوعان:
الأول: مطلوبات مادية من الأموال والمراكب والأثاث والرياش والدور والبساتين والغراس والخدم والأولاد وألوان الملبوسات والمطعومات، كذا التكاثر في الكتب والتصانيف على حساب التحقيق فيها، وعند ذلك مما لا يُقصد به وجه الله، فالتكاثر به مذموم، وهذا النوع ظاهر لا يخفى.

الثاني: مطلوبات معنوية، وذلك يشمل العلم الذي لا يُبتغى به وجه الله، كما يشمل ما يُلحق بالعلم مما لا ينبني عليه اعتقاد ولا عمل كالمسائل الفرضية، وتكثير الأقوال من غير حاجة، وقطع الأوقات في الوقوف عند الأمثلة والتعريفات أو ما يُعرف بالخلاف الصوري، وكذا التكثر بالمسائل وتفريقها وتوليدها، وكمن يترك المهم من التفسير ويشتغل بالأقوال الشاذة، أو يترك المهم من الفقه ويشتغل بنوادر الفروع وعلل النحو وغيرها، أو يتكثر بالتخريجات أو الطرق للحديث الصحيح الذي لا يحتاج إلى هذه الطرق الزائدة أو الشواهد، ومثل هذا يقال في كثرة العزو إلى الكتب المصنفة مع كون الحديث مخرجاً في الصحيحين أو أحدهما.

ومن لطيف ما ورد في هذا المعنى ما أخرجه ابن عبد البر رحمه الله في جامعه (2/1034) عن حمزة الكناني رحمه الله قال: "خرَّجت حديثاً واحداً عن النبي صلى الله عليه وسلم من مائتي طريق أو من نحو مائتي طريق -شك الراوي- قال: فداخلني من ذلك من الفرح غير قليل، وأعجبت بذلك، قال: فرأيت ليلة من الليالي يحيى بن معين في المنام، فقلت له: يا أبا زكريا! خرَّجتُ حديثاً واحداً عن النبي صلى الله عليه وسلم من مائتي طريق، قال: فسكت عني ساعة ثم قال: أخشى أن يدخل هذا تحت: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ}".

وقد ساق الشاطبي رحمه الله هذه الحكاية في الموافقات (1/114) وعقبها بقوله: "وهو صحيح في الاعتبار؛ لأن تخريجه من طرق يسير كافٍ في المقصود منه، فصار الزائد على ذلك فضلاً" (أ.هـ). وقد ذكر ابن الجوزي رحمه الله: "أن قوماً أكثروا جمع الحديث ولم يكن مقصدهم صحيحاً ولا أرادوا معرفة الصحيح من غيره بجمع الطرق، وإنما كان مرادهم العوالي والغرائب فطافوا البلدان؛ ليقول أحدهم: لقيت فلاناً، ولي من الأسانيد ما ليس لغيري، وعندي أحاديث ليست عند غيري.. وهذا كله من الإخلاص بمعزل، وإنما مقصدهم الرئاسة والمباهاة، ولذلك يتبعون شاذ الحديث وغريبه" (أ.هـ)، (تلبيس إبليس:116)، ومما يدخل في هذا اللون من التكاثر المذموم: التكاثر بالجاه والشهرة والرئاسات وثناء الخلق! قال الإمام الزهري رحمه الله: "ما رأينا الزهد في شيء أقل منه في الرياسة، نرى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال، فإذا نوزع الرياسة حامى عليها وعادى" (12).

فكما أن المال ملك الأعيان المنتفع بها، فإن الجاه ملك القلوب المطلوب تعظيمها وطاعتها، والتصرف فيها من تحصيل المنزلة في قلوب الخلق، وهو اعتقاد القلوب نعتاً من نعوت الكمال في هذا الشخص، إما من علم أو عبادة أو نسب أو قوة أو إعانة أو حسن صورة أو غير ذلك مما يعتقده الناس كاملاً، فبقدر ما يعتقدون له من ذلك تذعن قلوبهم لطاعته ومدحه وخدمته وتوقيره (13).

والحقيقة أن هذا اللون من المكاثرة أشدُّ فتكاً وأعظم خطراً من المكاثرة بالأموال والأولاد مما يدخل تحت النوع الأول؛ ذلك: "أن أكثر الناس إنما هلكوا لخوف مذمة الناس وحب مدحهم، فصارت حركاتهم كلها على ما يوافق رضا الناس رجاء المدح وخوفاً من الذم وذلك من المهلكات" (14).

ولا يخفى أن من غلب على قلبه حب الجاه صار مقصور الهم على مراعاة الخلق، مشغوفاً بالتردد إليهم والمراءات لهم، ولا يزال في أقواله وأفعاله ملتفتاً إلى ما يعظم منزلته عندهم ويقتنص به قلوبهم! وهذا جذر النفاق وأصل الفساد (15)؛ لأنه يحمل صاحبه على تقديم رضا الخلق على رضا الرب مما يؤدي إلى رقة الدين والعياذ بالله، فتجده إن أفتى الناس مال مع أهوائهم، وإن صلى إماماً لهم تلاعب بالصلاة مجاراة لأذواقهم، من إخلال بالمواقيت أو في الصفة، لا سيما في التراويح والقيام، حيث ترى أعاجيب متنوعة: من مقتصر على آية واحدة بعد الفاتحة في كل ركعة، ومن محول للدعاء في القنوت إلى موعظة، ومن متكلف للبكاء، ومن مصلٍ بهم في كل يوم بعدد مغاير في الركعات لليوم الذي قبله -حسب الطلب- ومن متكلفٍ في الدعاء موافقة تسعة وتسعين اسماً من الأسماء الحسنى (16) وغير ذلك مما قد يُبتلى به العبد مكاثرة في المأمومين أو غير ذلك مما يدخل في عموم قوله: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:1]، وإنما لكل امرئ ما نوى.

قال ابن الجوزي رحمه الله: "ومنهم -أي العلماء وطلاب العلم- من يفرح بكثرة الأتباع، ويلبس عليه إبليس أن هذا الفرح لكثرة طلاب العلم، وإنما مراده كثرة الأصحاب واستطارة الذكر... وينكشف هذا بأنه لو انقطع بعضهم إلى غيره ممن هو أعلم منه ثقل ذلك عليه! وما هذه صفة المخلص في التعليم" (أ.هـ)، (17).
وقد كان السلف الصالح يتوقون هذه المزالق أشد التوقي ويتحاشون الوقوع فيها، فعن سليمان بن حنظلة قال: "أتينا أُبي بن كعب رضي الله عنه لنتحدث إليه، فلما قام قمنا ونحن نمشي خلفه، فرهقنا عمر فتبعه فضربه بالدرة!! قال: فاتقاه بذراعيه، فقال: "يا أمير المؤمنين ما نصنع؟!"، قال: "أوَ ما ترى؟ فتنة للتابع مذلة للمتبوع؟!" (18).

ولما مشوا خلف عليٍّ رضي الله عنه قال: "عني خفق نعالكم، فإنها مفسدة لقلوب نوكى الرجال" (19).
وخرج ابن مسعود رضي الله عنه من منزله فتبعه جماعة، فالتفت إليهم وقال: "علام تتبعوني؟ فوالله لو تعلمون ما أغلق عليه بأبي ما تبعني منكم رجلان"، وفي بعض الروايات: "ارجعوا فإنه ذلة للتابع وفتنة للمتبوع".
وكان أبو العالية رحمه الله إذا جلس إليه أكثر من أربعة قام!
وكان خالد بن معدان رحمه الله إذا عظمت حلقته قام وانصرف كراهة الشهرة.
وقال شعبة: "ربما ذهبت مع أيوب السختياني لحاجة فلا يدعني أمشي معه، ويخرج من هاهنا وهاهنا لكي لا يفطن له" (20).

وكان الإمام أحمد رحمه الله إذا مشى في الطريق يكره أن يتبعه أحد، وكان يقول: "أشتهي مكاناً لا يكون فيه أحد من الناس" (21)، وكان يقول: "طوبى لمن أخمل الله ذكره" (22).
وعن الحسنرحمه الله: "لا تغرنك كثرة من ترى حولك، فإنك تموت وحدك، وتبعث وحدك وتحاسب وحدك".
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: "لو رأيت رجلاً اجتمع الناس حوله لقلت: هذا مجنون! من الذي اجتمع الناس حوله لا يحب أن يجوِّد كلامه لهم" (23).

وقال الأعمش: "جهدنا بإبراهيم حتى نجلسه إلى سارية فأبى" (24).
وكان الحارث بن قيس الجعفي يجلس إليه الرجل والرجلان فيحدثهما، فإذا كثروا قام وتركهم (25).
وكان محمد بن سيرين إذا مشى معه الرجل قام فقال: "ألك حاجة؟ فإن كانت له حاجة قضاها، وإن عاد معه قام فقال: ألك حاجة؟!" (26)

وقال إبراهيم النخعي: "إياكم أن توطأ أعقابكم" (27).
وعن عبد الرحمن بن يزيد قال: "قلنا لعلقمة: لو صليت في المسجد وجلسنا معك فتُسأل؟!"، قال: "أكره أن يُقال: هذا علقمة" (28)، وقال حماد بن زيد: "كنت أمشي مع أيوب السختياني فيأخذ في طرق إني لأعجب له كيف يهتدي لها فراراً من الناس أن يقال: هذا أيوب" (29).

وأخبار السلف في هذا كثيرة لا يسع المقام الاستطراد فيها بأكثر من هذا، وإنما أختم لك بهذا الخبر:
قال: عبد الرحمن بن مهدي: "كنت أجلس يوم الجمعة، فإذا كثر الناس فرحت، وإذا قلوا حزنت، فسألت بشر بن منصور، فقال: هذا مجلس سوء فلا تعُد إليه، فما عدت إليه!" (30).

الوقفة الثامنة: (31)، علق الله تعالى الذم في الآية على التكاثر الملهي عن التزود للآخرة، لكن لو حصلت الكثرة من غير تكاثر لم يضر، وقد كان بعض الصحابة أهل كثرة في المال أو الولد ولم تضرهم؛ لكونها حاصلة من غير تكاثر كما لا يخفى.

الوقفة التاسعة: بما مضى تبين أن الذم في الآية واقع على التكاثر في متاع الدنيا الزائل ولذاتها الفانية، أما التكاثر بأسباب السعادة الأخروية فهو مطلوب شرعاً (32)، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، وعليه فالتكاثر من حيث تعلق الذم والحمد قسمان: (محمود، ومذموم).

"فالنفوس الشريفة العلوية ذات الهمم العالية إنما تكاثر بما يدوم عليها نفعه، وتكمل به وتزكو وتصير مفلحة، فلا تحب أن يكثرها غيرها في ذلك، وينافسها في هذه المكاثرة، ويسابقها إليها، فهذا هو التكاثر الذي هو غاية سعادة العبد.. وضده: تكاثر أهل الدنيا بأسباب دنياهم، فهذا تكاثر ملهٍ عن الله وعن الدار الآخرة، وهو جارٌّ إلى غاية القلة، فعاقبة هذا التكاثر قلٌّ وفقرٌ وحرمان.

والتكاثر بأسباب السعادة الأخروية تكاثر لا يزال يذكر بالله وبنعمه، وعاقبته الكثرة الدائمة التي لا تزول ولا تفنى، وصاحب هذا التكاثر لا يهون عليه أن يرى غيره أفضل منه قولاً، وأحسن منه عملاً، وأغرز منه علماً، وإذا رأى غيره أكثر منه في خصلة من خصال الخير يعجز عن لحوقه فيها كاثره بخصلة أخرى، وهو قادر على المكاثرة بها.

وليس هذا التكاثر مذموماً، ولا قادحاً في إخلاص العبد، بلى هو حقيقة المنافسة، واستباق الخيرات.
وقد كانت هذه حال الأوس مع الخزرج-رضي الله عنهم- في تصاولهم بين يدي رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، ومكاثرة بعضهم لبعض في أسباب مرضاته ونصره.. وكذلك كانت حال عمر مع أبي بكر رضي الله عنهما، فلما تبين لعمر مدى سبق أبي بكر له قال: والله لا أسابقك إلى شيء أبداً" (33).

فينبغي للمؤمن العاقل أن يكون سعيه في تقديم الأهم وهو ما يُقرِّبه من ربه عز وجل، أما التكاثر بما يفنى فهو تكاثر بأخس المراتب، والاشتغال به يمنع الإنسان من الاشتغال بتحصيل السعادة الأخروية التي هي سعادة الأبد، ويصرفه عن الجد في العمل، ويطفئ نور الاستعداد في نفسه وصفاء الفطرة والعقل والكمالات المعنوية الباقية (34).

الوقفة العاشرة: (35) قوله: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ}: خبر يتضمن تقريعاً وتوبيخاً وتحسراً.
الوقفة الحادية عشرة: "{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ}: خطاب لكل من اتصف بهذا الوصف، وهم في الإلهاء والتكاثر درجات لا يحصيها إلا الله، فإن قيل: فالمؤمنون لم يلههم التكاثر، ولهذا لم يدخلوا في الوعيد المذكور لمن ألهاه.
وجواب هذا: أن الخطاب للإنسان من حيث هو إنسان على طريقة القرآن في تناول الذم له من حيث هو إنسان، كقوله: {وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً} [الإسراء:11]، {وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء:76]، {إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات:6]، {وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]، {إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ} [الحـج:66]، ونظائره كثيرة.

فالإنسان من حيث هو عار عن كل خير من العلم النافع، والعمل الصالح، وإنما الله سبحانه هو الذي يكمله بذلك ويعطيه إياه، وليس له ذلك من نفسه، بل ليس له من نفسه إلا الجهل المضاد للعلم، والظلم المضاد للعدل، وكل علم وعدل وخير فيه فمن ربه، لا من نفسه، فإلهاء التكاثر طبيعته وسجيته التي هي له من نفسه، ولا خروج له عن ذلك إلا بتزكية الله له، وجعله مريداً للآخرة، مؤثراً لها على التكاثر بالدنيا، فإن أعطاه ذلك وإلا فهو ملته بالتكاثر في الدنيا ولا بد" (36).
الشيخ: خالد بن عثمان السبت
http://www.khaledalsabt.com/
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]- انظر: معجم مقاييس اللغة (كتاب اللام، باب اللام والهاء وما يثلثها) ص939، المفردات للراغب (مادة: لهو) 748، تفسير القرطبي 6/414، الفوائد لابن القيم ص32، أنوار التنزيل 2/618، الكليات ص778، 799، روح المعاني 30/286.
[2]- انظر: الفروق اللغوية للعسكري ص210، الفوائد لابن القيم ص32، الكليات ص799.
[3]- الفروق اللغوية ص210.
[4]- الفوائد ص32
[5]- السابق ص32.
[6]- السابق ص32.
[7]- البخاري 2/575، ومسلم 2/192 من حديث عائشة رضي الله عنها.
[8]- انظر: التفسير الكبير 32/75، الفوائد ص32، أنوار التنزيل 2/618.
[9]- انظر: عدة الصابرين 183-184، الفوائد ص32، فتح البيان لصديق خان 10/435، تفسير السعدي 8/262.

[10]- انظر: شرح الكوكب المنير 3/197، قواعد التفسير 2/597.
[11]- عدة الصابرين 172.
[12]- السير 7/262.
[13]- انظر: منهاج القصادين ص211.
[14]- ما بين الأقواس " " من مختصر منهاج القاصدين ص212.
[15]- انظر: المصدر السابق 211.
* كان أبو وائل رحمه الله إذا صلى في بيته نشج نشيجاً لو جعلت له الدنيا على أن يفعله وأحد يراه ما فعله.. وكان أيوب السختياني إذا غلبه البكاء قام.


[16]- تنبيه: الرواية التي فيها سرد هذه الأسماء لا تصح والله أعلم.
[17]- تلبيس إبليس 131.
[18]- سنن الدارمي 1/132.
[19]- سنن الدارمي 1/134.
[20]- السير 6/22.
[21]- السابق 11/226.
[22]- السابق 11/207.
[23]- السير 8/383.
[24]- سنن الدارمي 1/132.
[25]- السابق.
[26]- السابق.
[27]- السابق.

[28]- السير 4/58.
[29]- السابق 6/22.
[30]- السابق 9/196.
[31]- انظر: عدة الصابرين 191-193.
[32]- انظر: القرطبي 6/414.
[33]-  ما بين الأقواس " " من كلام ابن القيم في عدة الصابرين 191-193.
[34]- انظر: التفسير الكبير 32/76، لباب التأويل 4/285، محاسن التأويل 17/242.
[35]- انظر: المحرر الوجيز 16/358.
[36]- ما بين الأقواس " " من كلام ابن القيم في عدة الصابرين 183-194.
----------------------
نقله لكم:
أبو لقمان الجزائري

آداب الدعاء


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
يقول الله -عز وجل-: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54]، فتعرف إلى خلقه وإلى عباده بعظمته -سبحانه وتعالى-، وأنه العظيم الأعظم، ولما نبههم على هذا الأمر قال لهم بعده: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55] فأمر الله -عز وجل- عباده المؤمنين بدعائه متضرعين إليه مخفين هذا الدعاء، أدعوه تضرعاً، التضرع: هو التذلل والخضوع، وإظهار المسكنة والضعف.

فالمسلم ينبغي عليه أن يدعو ربه؛ لأنه متعبدٌ بذلك من جهة: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [الأعراف:55] ولأنه من جهة أخرى مفتقرٌ كلَ الافتقار إلى ربه ومالكه -جل جلاله-، فهو لا يستغني عن لطفه ورحمته طرفة عين، فهو بحاجة إلى دعاء دائماً، وحينما يدعو الإنسان ينبغي عليه أن يمتثل ما أمر الله -عز وجل- به: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [الأعراف:55] أدعوه دعاء الضارع الذليل الخائف تضرعاً وخفية {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55]، فإذا دعا الإنسان ربه فينبغي أن يظهر عليه من الخنوع والخضوع، والخشوع والذل والانكسار ما يناسب عبوديته، وإذا دعا فإنه لا يليق به بحال من الأحوال أن يدعو دعاء المدلي على ربه، أو دعاء من يخاطب إنساناً مثله، أو ممن هو دونه، إنما هو يتضرع إلى ربه -جل جلاله–، وهو العظيم الأعظم.
{تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [الأعراف:55].



والإخفاء مطلوب في الدعاء إلا إذا كان ثمة من يؤمن على هذا الدعاء، ثم إن هذا الرفع إذا احتيج إليه لوجود من يؤمن على هذا الدعاء فلا ينبغي أن يكون رفعاً زائداً، سواءً كان ذلك من جهة الداعي، أو من جهة المؤمن على هذا الدعاء؛ لأن المؤمن داعٍ، وأما رفع الأصوات رفعاً زائداً، والضجيج في المساجد، ورفع المأمومين الصوت بالتأمين رفعاً زائداً فهذا أمرٌ يتنافى مع الأدب مع الله عز وجل، ويتنافى مع قوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [الأعراف:55] ولما رفع الصحابة رضي الله عنهم أصواتهم رفعاً زائداً في كل مكان يرتفعون عليه، أو ينخفضون؛ بالتكبير والتسبيح ونحو ذلك، قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا أبكماً ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً بصيراً قريباً، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» (أخرجه البخاري في كتاب الدعوات باب: الدعاء إذا علا عقبة (6021)، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار باب: استحباب خفض الصوت بالذكر (4/2076)(2704) بدون جملة: «والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» وهي عند الإمام أحمد (4/402))، ثم قال الله -عز وجل-: {إنه لا يحب المعتدين} [الأعراف:55] و(إنَّ) هنا مشعرة بالتعليل، وهي تدل على التوكيد، وهذا يدل على أن رفع الأصوات من غير حاجة أنه من الاعتداء في الدعاء، وأن الدعاء بأسلوب يتنافى مع الأدب مع الله -عز وجل- من غير ضراعة أن ذلك يعد من التعدي في الدعاء.

أنواع الاعتداء في الدعاء:


ويدخل من ألوان التعدي تحت قوله: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [(55) سورة الأعراف] شيءٌ كثير، فمن ذلك:

1- ما يفعله بعض الناس من سرد الأسماء الحسنى، أو ما يحفظونه من الأسماء الحسنى، فيسردون عشرات الأسماء الحسنى، ويتكلفون لكل اسم دعاء في القنوت مثلاً، وتبقى المسألة فرجة يجتمع حتى من لا يصلي عند المسجد في وقت الدعاء -ببعض البلاد- ثم يستمعون إلى هذا المهرجان، فهذا أمرٌ لا يليق.


2- وكذلك ما يفعله بعض الناس في دعائهم حيث أنهم يحولون الدعاء إلى موعظة، فيذكرون ما يستجيش المشاعر، فيتحدثون عن القبور وعن الدود، وعن التراب واللحود، وإذا سالت العيون، وسكنت الجفون، وأشياء كثيرة جداً يحركون بها القلوب والمشاعر، فالدعاء ليس موعظة، وإنما هو سؤال وتضرع، وافتقار إلى الله -تبارك وتعالى-، وليست المسألة ذوقية أو مزاجية حتى تعجب الناس، المسألة دين وشرع، أنت تريد أن يستجاب هذا الدعاء فلا تعتد فيه.


3- ومن ذلك أيضاً أن الإنسان أحياناً لربما تكلف في الدعاء أموراً لا ينبغي أن يتكلفها، كأن يذكر تفاصيل زائدة: اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، وإخواننا وأخواتنا، وأعمامنا وعماتنا، وأجدادنا وجداتنا،.. إلى آخره، ويسرد الجيران وغيرهم و.. و... إلخ، فهذا لا يليق.


ثبت عن عبد الله بن المغفل رضي الله عنه أنه سمع ابن له يقول: "اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة" فبين له حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيأتي قوم يعتدون في الدعاء، وقال له: "يا بني سل الله الجنة" فإذا دخلت الجنة فاسأل الله القصر الأبيض أو غيره (أخرجه أحمد (4/86).


وكذلك دنو الهمة، وقد سمعت بعض العجائز تقول: "اللهم أدخلني في صاير الجنة" وصاير الجنة في لهجتها أي في مؤخرة الباب في المكان الذي يغلق فيه الباب من الخلف، فهذا دنو همة ولا يليق، وفضل الله أوسع، وإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى، فينبغي للإنسان أن يرفع همته، والله هو الكريم الأكرم، والعظيم الأعظم.


وكذلك تعليق الدعاء بالمشيئة: "اللهم أدخلني الجنة إن شئت" فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وهكذا كأن يسأل ربه أمراً ممتنعاً في العادة، كأن يقول: اللهم ارزقني الولد من غير أن يتزوج، أو أن يسأل أمراً يمتنع شرعاً كأن يدعو لأحد من الكفار أن يدخله الله الجنة، فالجنة محرمة على الكافرين، أو أن يدعو على أحد من المسلمين أن لا يدخله الله الجنة، فهذا أمرٌ لا يكون؛ لأن الله وعد المؤمنين بالجنة، فهذا من الاعتداء في الدعاء.


4- ومن ذلك الدعاء بالإثم وقطيعة الرحم.

5- ومن ذلك أن يعجل الإنسان في دعائه فيقول: "دعوت فلم يستجب لي" فهذا من أسباب رد الدعاء، وهو سوء أدب وسوء ظن مع الله -تبارك وتعالى-.


6- ومن ذلك أيضاً أن يسأل أمراً يخالف السنن الكونية، وأخشى أن يكون دعاء كثير من الأئمة: اللهم اجعل الكفار وأبناءهم وأموالهم غنيمة للمسلمين، إيش غنيمة للمسلمين؟ هذا يخالف السنن الكونية، نحن في شهواتنا غارقون كيف يجعلهم غنيمة لنا وقد أخذوا بجميع أسباب القوة، وتمكنوا في الأرض، ونحن في غاية الضعف والتخلف؟ كيف يكونون غنيمة لنا؟ فلا يكونون غنيمة لنا إلا إذا أخذنا بجميع أسباب القوة المادية والمعنوية، والله له سنن، والنبي صلى الله عليه وسلم يتضرع في غزوة بدر حتى يسقط رداءه، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أخذ بجميع أسباب القوة، ويقول: «اللهم أنجز لي ما وعدتني به، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض» (أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم (3/1383)(1763))، وغير ذلك..



ونحن جالسين في شهواتنا، وفي أهوائنا، وفي مشاكلنا، وفي بعدنا عن الله، وعدم الأخذ بأسباب القوة، ثم نقول: اللهم اجعلهم غنيمة باردة للمسلمين، هكذا كلهم في جميع مشارق الأرض ومغاربها، فلو دعينا على فئة على الأقل منهم كان ذلك مقبولاً، أما جميعهم ليكونوا غنيمة لنا فنحن لا نستحق ذلك؛ لأننا لم نأخذ بأسباب القوة، ولم نتأهل لهذا المستوى، الدعاة أنفسهم بينهم من الخلاف والشر ما الله به عليم، فكيف بعامة الناس؟! فالله له سنن، النصر لا يأتي ونحن جالسون، نقول: اللهم اجعلهم غنيمة باردة للمسلمين، إلا إذا كان هذا على فئة معينة منهم اعتدت على المسلمين فهذا ممكن، أما الجميع هكذا فهذا له سنن لا يتعداها.


7- وهناك صور أخرى من الاعتداء في الدعاء، ومن ذلك تكلف البكاء، فالإنسان يمكن أن يتكلف البكاء إذا كان يصلي منفرداً، أما إذا كان مع الناس ويتكلف البكاء فيخشى أن يدخل هذا في باب الرياء.


أيوب السختياني كان ينشج نشيجاً إذا صلى في الليل لو أعطي الدنيا على أن يسمعه أحد ما فعله، في بيته يسمع له نشيج، صوت البكاء، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يسمع له أزيز في صدره، ما كان يتكلف البكاء أمام الناس، فهذه قضية يخشى أن تدخل في هذا الموضوع، وبعض الناس يرفع صوته بالبكاء رفعاً زائداً كأنه جالس في مكان سخب أو مأتم أو نياحة، وهذا أمر لا يليق، وقد رأيت بعضهم قطع الصلاة من شدة البكاء، فهذا أمر لا يليق أن يفعله المسلم، والمسألة ليست عواطف، القضية قضية شرعية ينبغي أن تضبط بضابط الشرع حتى تقبل العبادة.


8- وهناك صور أخرى كأن يسأل الإنسان ربه أمراً ممتنعاً عقلاً هذا لا يكون، أو تحصيل حاصل، كأن يقول مثلاً: اللهم أدخل الكفار النار هو سيدخلهم النار بغير دعائك هذا، فهذا تحصيل حاصل، وهكذا في صور مختلفة.


9- وأخشى أن يكون تزيين الصوت بالدعاء من الرياء فلا أعرف له أصلاً، تلحين الدعاء، كأن يجعل الدعاء على هيئة الآيات التي تقرأ، يرتل الدعاء وإنما ينبغي أن يلقى الدعاء دعاءً جزلاً في إلقاء جزل؛ وفيه خضوع لله -عز وجل- وخنوع وانكسار وتذلل، وأيضاً فيه تأدب في الصوت والنبرة لا يرفع رفعاً زائداً، وإنما يسمع من وراءه دعاء الخاشع الخائف الذليل، ثم يؤمن من خلفه تأميناً مناسباً لائقاً مع مقام المعبود الذي يناجونه ويقفون بين يديه -سبحانه وتعالى-، أما رفع الأصوات بالبكاء الشديد وبعضهم إذا ذهب إلى بعض المساجد رأيته يعبي جيوبه من المناديل؛ لأنه يتهيأ لنياحة! فهذا أمر لا يحسن ولا يليق، وكثير من الناس يجرون مع العواطف، ولا ينضبطون بالضوابط الشرعية.


وهناك صور أخرى غير هذه، لكن لا أحب الإطالة عليكم، وقد أطلت، أسأل الله -عز وجل- أن يتقبل منا ومنكم، وأن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، وأن يجعلنا هداة مهتدين.


تنبيه:
وأنبه إلى ما ذكر الله بعد هذه الآيات من قوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56] فالإفساد في الأرض، والدعاء من غير خوف، ومن غير طمع هذا كله من مضنة رد الدعاء، كما ذكر الله -عز وجل-، فالإنسان الذي يريد أن يستجاب دعاءه ينبغي أن يكون صالحاً مصلحاً، لا يكون مفسداً في الأرض ويرفع يديه ويقول: يارب يارب، والله -عز وجل- يمقته ويرده خائباً، نسأل الله ألا يردنا وإياكم خائبين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
للشيخ: خالد بن عثمان السبت
-----------------------
نقله لكم:
أبو لقمان الجزائري

وقفات مع قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}

 بسم الله الرحمن الرحيم

وقفات مع قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

فهذه وقفات مع آية الإسراء، وهي قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36].

الوقفة الأولى: في تعلق الآية واتصالها بما قبلها من الآيات: لما ذكر الله تعالى أوامر ثلاثة قبل هذه الآية ذكر نواهي، فنهى عن ثلاثة أشياء.

الوقفة الثانية: في قوله: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}: دعوة إلى التحري والتثبت، والمعنى: لا تتبع ما ليس لك به علم، بل الواجب أن تتثبت في كل ما تقوله أو تعمله أو تتلقاه.

ومعلوم أن التثبت في كل الأمور دليلٌ على حسن الرأي وجودة العقل والنظر، وبذلك تنكشف الأمور وتتبين الأحوال، وبالتالي يقرر العبد ماذا يعمل أو يعتقد ويقبلُ وماذا يترك.

والمتثبت يُعمِل فكره وعقله ويشاور غيره، وهذا من أعظم الأسباب المعينة على الوصول للحق والصواب. وبهذا يجتاز العبدُ أسباب الندم والحسرة، وغير ذلك من الأمور الجالبة للشقاء بإذن الله تعالى.

الوقفة الثالثة: في قوله: {وَلَا تَقْفُ}: جاء بعد أداة النهي (لا) الفعلُ المضارع (تَقْفُ)، والقاعدة أن الفعل إذا ورد بعد النهي فإنه يدل على العموم.

والمحصلة من هذا هنا هي أن الله تعالى نهى الإنسان أن يتبع ما ليس له به علم مطلقًا، وهذا يشمل جميع الأحوال والأزمان والأمكنة؛ لأن العموم ينصب على هذه الأمور جميعًا، فالعبد منهي عن اتباع ما ليس له به علم في كل وقت وفي كل قضية، سواءً كانت تتعلق بحقوق الله أو حقوق الآدميين أو غير ذلك من الأمور، ويبين هذا أيضًا ما يأتي في:

الوقفة الرابعة: وهي أن قوله: {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}: عام لكل شيء؛ وذلك أن لفظة (مَا) تفيد العموم فهذا يشمل الكلام في الأعراض من الغيبة والنميمة؛ لأنها تقال من وراء الإنسان (القفا) والقذفَ والبهتَ والكذبَ وسائر أنواع الاعتقادات الباطلة هذا فيما يفعله الإنسانُ ويبتدئه، وهكذا الشأن فيما يتلقفه عن غيره من تصديق الأقوال والإشاعات الكاذبة، واتهام الصالحين والوقيعة في أعراضهم، وأن يقول: سمعتُ ولم يسمع وتقبل الأفكار الفاسدة، والمذاهب المنحرفة، والتقاليد المستوردة، وهذا يكثر وقوعه في جانب النساء من تتبع الموضات والتشبه بالكافرات والفاسقات، والتزين بزيهن من الملابس الفاضحة، والموديلات العارية وغير ذلك من الشر المستطير الذي وصل إلى الأمة من أعدائها، فالواجب على العبد أن يضبط جميع تصرفاته فلا يحكم إلا بعلم، ولا يعتقد إلا بعلم، ولا يفعل شيئًا إلا بعلم.

"والله يحب الكلام بعلم وعدل، ويكره الكلام بجهل وظلم، وقد حرم سبحانه الكلام بلا علم مطلقًا، وخص القول عليه بلا علم بالنهي، فقال تعالى: {وَلَا تَقْفُ}، وقال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ} [الأعراف من الآية:33].
وأمر بالعدل على أعداء المسلمين، فقال: {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّـهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ} [المائدة من الآية:8]"[1].

الوقفة الخامسة: في قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ}: نهي، ومعلوم أن النهي يدل على التحريم إلا لقرينة، ولا قرينة هنا تصرفه إلى غير ذلك مما يدل على أن اقتفاء العبد ما لا علم له به يعد من الأمور المحرمة.

الوقفة السادسة: أصل (القفو) الاتباع، تقول: قفوت أثر فلان إذا تتبعت أثره.

ومعلوم أن الإنسان يكون أسيرًا لما يتلقفه من أفكار ومعتقدات فيتبعها ويعمل بمقتضاها، وبهذا تعرف خطورة هذا الجانب.

الوقفة السابعة: في قوله: {إِنَّ السَّمْعَ} الخ: الجملة هنا تعليلية؛ لأن (إنَّ) تأتي للتعليل، والمعنى على هذا: انته عما لا يحل لك؛ لأن الله أنعم عليك بالسمع والبصر والعقل لتشكره، وهو مختبرك بذلك، وسائلك عنه فلا تستعمل نعمة الله في معصيته، قال الله تعالى: {وَاللَّـهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78][2].

الوقفة الثامنة: في قوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ}: قُدِّم السمع على البصر وأُخِّر ذكرُ الفؤاد؛ لأنه منتهى الحواس ومستقر المعتقدات ومبعث الإرادات، والسمع والبصر طريقان له ونافذتان عليه، وبهما يصل إليه كثيرٌ من الأمور النافعة أو الضارة، فما تبصره العين يؤثر في القلب ولا شك، كالنظرة المحرمة.. الخ، وهكذا ما تسمع الأذنُ من خيرٍ وشر كالغناء.

وقدَّم السمع على البصر لأن أكثرَ ما ينسب الناس أقوالهم إلى السمع، ولأن إدراك السمع أعظم وأشمل من إدراك البصر؛ ذلك أن البصر إنما يدرك به ما كان في مواجهته خاصة، أما السمع فيدرك به جميع المسموعات التي تطرقه من جميع الجهات، وأيضًا فإن البصر لا يدرك به إلا الأجسام والأجرام، بخلاف السمع، فإن العبد يدرك به الأمور الحاضرة والغائبة مما أُخبر عنه، وهكذا فالترتيب الواقع بين هذه الأمور في الآية متدرج به من الأدنى إلى الأعلى، والله أعلم.

الوقفة التاسعة: الفؤاد هو القلب، إلا أن فيه معنى زائدًا على (القلب) وهو أنه يعتبر في هذه اللفظة (الفؤاد) معنى التفؤد أي التوقد؛ إذ إنه مبعث الإرادات، وآلة الإدراك، ومستقر العلم والعقل كما لا يخفى، ولهذا فإن التعبير بـ(الفؤاد) هنا أبلغ من التعبير بـ(القلب) والله أعلم.

الوقفة العاشرة: في ذكر الفؤاد هنا مع السمع والبصر دليلٌ على المؤاخذة على الأمور القلبية، كما أن الإنسان يؤاخذ على ما يسمع ويبصر.

ففيما يتعلق بالقلب فإن الإنسان يؤاخذ على المعتقدات التي يعتقدها فيثاب على التوحيد، ويعاقب على الشرك كما يؤاخذ على الأعمال القلبية الأخرى، فيثاب على اليقين والرضا والتوكل، ويعاقب على الأدواء التي تصيبه كالحسد والغل ونحو ذلك من سوء الظن... الخ، وهكذا العزم المصمم على المعصية[3].

الوقفة الحادية عشرة: قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: "ثم إن الله سبحانه وتعالى خلق القلب للإنسان يعلمُ به الأشياء، كما خلق له العين يرى بها الأشياء، والأذن يسمع بها الأشياء، كما خلق له سبحانه كل عضوٍ من أعضائه لأمر من الأمور، وعمل من الأعمال، فاليد للبطش، والرجل للسعي، واللسان للنطق، والفم للذوق، والأنف للشم، والجِلد للمس، وكذلك سائر الأعضاء الباطنة والظاهرة.

فإذا استعمل الإنسان العضو فيما خُلق له وأُعد لأجله فذلك هو الحق القائم، والعدل الذي قامت به السماوات والأرض، وكان ذلك خيرًا وصلاحًا لذلك العضو ولربه وللشيء الذي استُعمل فيه، وذلك الإنسان الصالح هو الذي استقام حاله، و{أُولَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:5].
وإذا لم يُستعمل العضو في حقه بل ترك بطالًا فذلك خسران، وصاحبه مغبون، وإن استعمل في خلاف ما خُلق له فهو الضلال والهلاك، وصاحبه من الذين بدلوا نعمة الله كفرًا.

ثم إن سيد الأعضاء ورأسها هو القلب: كما سُمي قلبًا، قال النبي صلى الله عليه وسلم:  «ألا وإن في الجسدِ مُضغَةً، إذا صلَحَتْ صلَح الجسدُ كلُّه، وإذا فسَدَتْ فسَد الجسدُ كلُّه، ألا وهي القلبُ» (صحيح البخاري؛ رقم: [52]).

وإذ قد خُلق القلب لأن يُعلم به فتوجهه نحو الأشياء ابتغاء العلم بها هو الفِكر والنظر، كما أن إقبال الأذن عن الكلام ابتغاء سمعه هو الإصغاء والاستماع، وانصراف الطَّرف إلى الأشياء طلبًا لرؤيتها هو النظر.

فالفِكر للقلب كالإصغاء للأذن، ومثله نظر العينين فيما سبق، وإذا عَلم ما نظر فيه فذاك مطلوبه، كما أن الأذن كذلك إذا سمعت ما أصغت إليه، أو العين إذا أبصرت ما نظرت إليه، وكم من ناظر مفكر لم يحصِّل العلم ولم ينله، كما أنه كم من ناظرٍ إلى الهلال لا يبصره، ومستمع إلى صوت لا يسمعه.

وعكسه من يؤتى علمًا بشيء لم ينظر فيه ولم تسبق منه إليه سابقةُ تفكير فيه، كمن فاجأته رؤية الهلال من غير قصد إليه أو سمع قولًا من غير أن يُصغي إليه؛ وذلك كله لا لأن القلب بنفسه يقبل العلم، وإنما الأمر موقوف على شرائط واستعداد قد يكون فعلًا من الإنسان فيكون مطلوبًا، وقد يأتي فضلًا من الله فيكون موهوبًا.

فصلاح القلب وحقه والذي خلق من أجله هو أن يعقل الأشياء، لا أقول أن يعلمها فقط، فقد يعلمُ الشيء من لا يكون عاقلًا له، بل غافلًا عنه ملغيًا له، والذي يعقل الشيء هو الذي يقيده ويضبطه ويعيه ويثبته في قلبه، فيكون وقت الحاجة إليه غنيًا فيطابق عمله قوله، وباطنه ظاهره، وذلك هو الذي أوتي الحكمة، {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة من الآية:269].
وقال أبو الدرداء: "إن من الناس من يؤتى علمًا ولا يؤتى حكمًا، وإن شداد بن أوس ممن أوتي علمًا وحكمًا".
وهذا مع أن الناس متباينون في نفس عقلهم الأشياء من بين كامل وناقص، وفيما يعقلونه من بين قليل وكثير، وجليل ودقيق، وغير ذلك"[4].

 

الوقفة الثانية عشرة: في قوله تعالى: {كُلُّ أُولَـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}: الإشارة في قوله: {أُولَـٰئِكَ} عائدةٌ إلى ما سبق من السع والبصر والفؤاد، ومعلوم أن الإشارة بأُولئِكَ مما يختص به العقلاء، وقد ورد استعمالها هنا مع هذه الآلات ولا إشكال في هذا؛ لأنه نزلها منزلة من يعقل ذلك أنها تُسأل عما تلقته كما تُسأل عن صاحبها كما سيأتي.
ومعلوم أن غير العقلاء إذا نُزِّلوا منزلة العقلاء فإنهم يُعاملون معاملتهم من حيث الصيغ والعبارات في الضمائر وصيغ الجموع، كما في قوله تعالى عن الشمس والقمر: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف من الآية:4]، والأصل (رأيتها لي ساجدةً) لكن لمَّا كان السجود من أفعال العقلاء ووقع من هذه الجمادات نزِّلوا منزلة العقلاء.

الوقفة الثالثة عشرة: يُلحظ في هذا القدر من الآية ما يلي:

    أنه قَدَّم {كُلُّ} الدالة على الإحاطة، وكان بالإمكان الاستغناء عن هذه اللفظة فيكون الكلام: "إن السمع والبصر والفؤاد سُتسأل عما وقع منها كما ستُسأل عن صاحبها"، إلا أنه جاء بـ(كل) زيادة في التوكيد وتقرير المعنى، والله أعلم.
    جاء باسم الإشارة {أُولَـٰئِكَ} دون الضمير، فلم يقل: "كلها كان عنه مسؤولًا" لما في الإشارة من زيادة التوكيد والتمييز.
    جاء بفعل {كَانَ} لدلالته على رسوخ الخبر؛ إذ إن هذا أمر واقع لا محالة، والله المستعان.

الوقفة الرابعة عشرة: في قوله: {كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}: قُدِّم المعمول (عنه) على عامله (مسؤولًا)، والقاعدة المعروفة في هذا الباب هي أن تقديم المعمولات على عواملها يفيد الاهتمام، والمعنى: كل السمع والبصر والفؤاد كان مسؤولًا عن نفسه، ومطالبًا بأن يبين مستند صاحبه من حسه.

الوقفة الخامسة عشرة: في قوله: {مَسْئُولًا} السؤال هنا كناية عن المؤاخذة بالتقصير وتجاوز الحق، كما يقال: "أنت مسؤول عن تصرفاتك"، أو سُتسأل عن فعلك هذا، كما في قوله تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:24].

الوقفة السادسة عشرة: في معنى قوله: {كَانَ عَنْهُ} أي كان -أي كل أولئك- عن الإنسان مسؤولًا، ويدل على هذا المعنى قوله تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ} [يس من الآية:65]، وقوله: {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ} [فصلت من الآية:20]، الآية.

ويمكن أن يكون المعنى: أن الإنسان يُسأل عن سمعه وبصره وقلبه، ويدل على هذا قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ . عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92-93]، وقوله: {وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل من الآية:93]، وكلا المعنيين صحيح؛ لأن القاعدة أن الآية إذا احتملت معاني متعددة وأمكن حملها على جميع تلك المعاني من غير فساد للمعنى، فإنها تُحمل عليها جميعًا، لا سيما إذا دلَّ القرآن على هذه المعاني جميعًا في مواضع أخرى كما في هذه الآية، وهذا لا شك فيه إن شاء الله، والله أعلم.

فالمحصِّلة أن السمع والبصر والفؤاد هذه كلها تُسأل عما تلقته، كما تسأل عن صاحبها، وأيضًا فإن صاحبها يحاسب عنها.

الوقفة السابعة عشرة: في قوله: {كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}: التفات؛ ذلك أن أول الآية ورد بأسلوب الخطاب: {وَلَا تَقْفُ}، وجاء هذا الموضع بأسلوب الغيبة كَانَ عَنْهُ، وفي هذا من التفنن بالخطاب وتنشيط السامع ما فيه، والله أعلم.

الوقفة الثامنة عشرة: إذا كان السمع والبصر والفؤاد منقسمًا إلى ما يؤمر به وينهى عنه، والعبد مسؤول عن ذلك، فإن هذا يدعو إلى المراقبة والمحاسبة، والوقوف مع النفس ومساءلتها، والعبد مسؤول عن حركات هذه الجوارح، وهل هي حركات نافعة، بأن وضعت فيما يقرِّب إلى الله تعالى أم ضارة بأن وجهت لمعصية الله.

فعلى العبد أن يتعاهدها بحفظها عن الأمور الضارة؛ ليعد لهذا السؤال جوابًا، فمن استعملها في طاعة الله فقد زكاها ونماها، وأثمرت له النعيم المقيم، ومن استعملها في ضد ذلك فقد دساها، وأسقطها وأوصلته إلى العذاب الأليم، نسأل الله العافية.

الوقفة التاسعة عشرة: في الآية أدب خُلقي رفيع، يعلم الأمة التفرقة بين مراتب الخواطر العقلية بحيث لا يختلط المعلوم والموهوم.

الوقفة العشرون: في الآية إصلاح اجتماعي جليل يجنب الأمة الوقوع في المهالك؛ ذلك أن إهمال تلك الجوارح الثلاث من المراقبة يجعلها تنطلق بلا زمام فتتلقف ما فيه بوارها، فتدمّر الأمة بفساد عقائدها وأخلاقه، وتتفكك الأواصرُ بسبب فشو قالة السوء بين الناس.. الخ.

قال شيخ الإٍسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: "ثم هذه الأعضاء الثلاثة هي أمهات ما ينال به العلم ويُدرك، أعني العلم الذي يمتاز به البشرُ عن سائر الحيوانات دون ما يشاركها فيه من الشم والذوق واللمس، وهنا يدرك به ما يحب ويكره وما يميز به بين من يحسن إليه ومن يسيء إليه إلى غير ذلك، قال الله تعالى: {وَاللَّـهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78].
وقال: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ ۖ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۚ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ} [السجدة:9].
وقال: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36].
وقال: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً } [الأحقاف من الآية:26].
وقال: {خَتَمَ اللَّـهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة من الآية:7].
وقال فيما لكل عضو من هذه الأعضاء من العمل والقوة: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا} [ الأعراف من الآية:179].

ثم إن العين تقصر عن القلب والأذن، وتفارقهما في شيء وهو أنها إنما يرى صاحبها بها الأشياء الحاضرة والأمور الجسمانية مثل الصور والأشخاص، فأما القلب والأذن فيعلم الإنسان بهما ما غاب عنه وما لا مجال للبصر فيه من الأشياء الروحانية، والمعلومات المعنوية، ثم بعد ذلك يفترقان: فالقلب يعقل الأشياء بنفسه إذا كان العلم هو غذاؤه وخاصيته، أما الأذن فإنها تحمل الكلام المشتمل على العلم إلى القلب، فهي بنفسها إنما تحمل القول والكلام، فإذا وصل ذلك إلى القلب أخذ منه ما فيه من العلم، فصاحبُ العلم في حقيقة الأمر هو القلب، وإنما سائر الأعضاء حُجَبَةٌ له توصل إليه من الأخبار ما لم يكن ليأخذه بنفسه، حتى إن من فقد شيئًا من هذه الأعضاء فإنه يفقد بفقده من العلم ما كان هو الواسطة فيه.

فالأصم لا يعلمُ ما في الكلام من العلم، والضريرُ لا يدري ما تحتوي عليه الأشخاص من الحكمة البالغة، وكذلك من نظر إلى الأشياء بغير قلب أو استمع إلى كلمات أهل العلم بغير قلب فإنه لا يعقل شيئًا.
فمدار الأمر على القلب، وعند هذا تستبين الحكمة في قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الحج من الآية:46].
حتى لم يذكر هنا العين كما في الآيات السوابق، فإن سياق الكلام هنا في أمور غائبة، وحكمة معقولة من عواقب الأمور لا مجال لنظر العين فيها، ومثله قوله: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ} [الفرقان من الآية:44].

وتتبين حقيقة الأمر في قوله: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37].
فإن من يؤتى الحكمة وينتفع بالعلم على منزلتين: إما رجل رأى الحق بنفسه فقبله فاتبعه ولم يحتج إلى من يدعوه إليه، فذلك صاحبُ القلب، أو رجلٌ لم يعقله بنفسه، بل هو محتاج إلى من يعلمه ويبينه له ويعظه ويؤدبه، فهذا أصغى فـ{أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق من الآية:37]، أي حاضر القلب ليس بغائبه، كما قال مجاهد: "أوتي العلم وكان له ذكرى".

ويتبين قوله: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ۚ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ . وَمِنْهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ ۚ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ} [يونس:42-43].

وقوله: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ۖ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الأنعام من الآية:25].

ثم إذا كان حق القلب أن يعلم الحق فإن الله هو الحق المبين، {فَذَٰلِكُمُ اللَّـهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ ۖ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس من الآية:32]، إذا كان كل ما يقع عليه لمحة ناظر أو يجول في لفتة خاطر، فالله ربه ومنشئه وفاطره ومبدئه، لا يحيط علمًا إلا بما هو من آياته البينة في أرضه وسمائه، وأصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: "ألا كل شيء ما خلا الله باطل".

أي: ما من شيء من الأشياء إذا نظرت إليه من جهة نفسه إلا وجدته إلى العدم، وما هو فقير إلى الحي القيوم، فإذا نظرت إليه وقد تولته يد العناية بتقدير من أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، رأيته حينئذٍ موجودًا مكسوًا حلل الفضل والإحسان، فقد استبان أن القلب إنما خُلق لذكر الله سبحانه، ولذلك قال بعض الحكماء المتقدمين من أهل الشام -أظنه سليمان الخواص رحمه الله- قال: "الذكر للقلب بمنزلة الغذاء للجسد، فكما لا يجد الجسد لذة الطعام مع السقم، فكذلك القلب لا يجد حلاوة الذكر مع حب الدنيا"، أو كما قال.

فإذا كان القلب مشغولًا بالله، عاقلًا للحق، متفكرًا في العلم، فقد وضع في موضعه، كما أن العين إذا صُرفت إلى النظر في الأشياء فقد وضعت في موضعها، أما إذا لم يُصرف إلى العلم ولم يوع فيه الحق فقد نسي ربه، فلم يوضع في موضع بل هو ضائع، ولا يحتاج أن نقول: قد وضع في موضع غير موضعه، بل لم يوضع أصلًا، فإن موضعه هو الحق، وما سوى الحق باطل، فإذا لم يوضع في الحق لم يبق إلا الباطل، والباطل ليس بشيء أصلًا، وما ليس بشيء أحرى أن لا يكون موضعًا.

والقلبُ هو نفسه لا يقبل إلا الحق، فإذا لم يوضع فيه فإنه لا يقبل غير ما خُلق له، سنة الله، {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّـهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب من الآية:62]، وهو مع ذلك ليس بمتروك مخلَّى فإنه لا يزال في أودية الأفكار وأقطار الأماني لا يكون على الحال التي تكون عليها العين والأذن من الفراغ والتخلي، فقد وضع في غير موضع لا مطلق ولا معلق، موضوع لا موضوع له، وهذا من العجب، فسبحان ربنا العزيز الحكيم، وإنما تنكشف للإنسان هذه الحال عند رجوعه إلى الحق، إما في الدنيا عند الإنابة، أو عند المنقلب إلى الآخرة، فيرى سوء الحال التي كان عليها، وكيف كان قلبه ضالًا عن الحق، هذا إذا صرف في الباطل.

فأما لو تُرك وحالُه التي فُطر عليها فارغًا عن كل ذكر خاليًا عن كل فكر فقد كان يقبل العلم الذي لا جهل فيه، ويرى الحق الذي لا ريب فيه، فيؤمن بربه وينيب إليه، فإن كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمةً جمعاء لا يحس فيها من جدع،  {فِطْرَتَ اللَّـهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّـهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم من الآية:30]، وإنما يحول بينه وبين الحق في غالب الحال شغله بغيره من فتن الدنيا، ومطالب الجسد، وشهوات النفس، فهو في هذه الحال كالعين الناظرة إلى وجه الأرض لا يمكنها أن ترى مع ذلك الهلال، أو هو يميل إليه فيصده عن اتباع الحق، فيكون كالعين التي فيها قذى لا يمكنها رؤية الأشياء.

ثم الهوى قد يعترض له قبل معرفة الحق فيصده عن النظر فيه، فلا يتبين له الحق كما قيل: حبك الشيء يعمي ويصم، فيبقى في ظلمة الأفكار، وكثيرًا ما يكون ذلك عن كبر يمنعه عن أن يطلب الحق، {فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} [النحل من الآية:22].

وقد يعرض له الهوى بعد أن عرف الحق فيجحده ويعرض عنه، كما قال ربنا سبحانه فيهم: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} [الأعراف من الآية:146].

ثم القلب للعلم كالإناء للماء، والوعاء للعسل، والوادي للسيل، كما قال تعالى: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد من الآية:17]، الآية.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ مثلَ ما بعثَني اللهُ به عزَّ وجلَّ من الهدَى والعلمِ كمثلِ غيثٍ أصاب أرضًا، فكانتْ منه طائفةٌ طيِّبةٌ قبِلتِ الماءَ فأنبتتِ الكَلأَ والعشبَ الكثيرَ، وكان منها أجادِبُ أمسكتِ الماءَ فنفعَ اللهُ بها النَّاسَ، فشرِبوا منها وسقَوْا ورعَوْا، وأصاب طائفةٌ منها أخرَى إنَّما هي قيعانٌ لا تمسكُ ماءً ولا تُنبتُ كلأً، فذلك مثل من فقِهَ في دينِ اللهِ ، ونفعَهُ بما بعثَني اللهُ به، فعلِمَ وعلَّمَ، ومثلُ من لم يرفعْ بذلك رأسًا ولم يقبلْ هدَى اللهِ الَّذي أُرسلتُ به» (صحيح مسلم؛ رقم: [2282]).

وفي حديث كميل بن زياد بن علي رضي الله عنه قال: «القلوب أوعية وخيرها أوعاها» (تاريخ دمشق؛ رقم: [50/251]).

وبلغنا عن بعض السلف قال: "القلوب آنية الله في أرضه، فأحبها إلى الله تعالى أرقها وأصفاها"، وهذا مثل حسن؛ فإن القلب إذا كان رقيقًا لينًا كان قبوله للعلم سهلًا يسيرًا، ورسخ العلم فيه وثبت وأثر، وإن كان قاسيًا غليظًا كان قبوله للعلم صعبًا عسيرًا.
ولا بد مع ذلك أن يكون زكيًا صافيًا سليمًا، حتى يزكو فيه العلم ويثمر ثمرًا طيبًا، وإلا فلو قبل العلم، وكان فيه كدر وخبث أفسد ذلك العلم، وكان كالدغل في الزرع إن لم يمنع الحب من أن ينبت منعه من أن يزكو ويطيب، وهذا بين لأولي الأبصار"[5].

 

الوقفة الحادية والعشرون: تخصيص الأمور الثلاثة بالذكر لا يدل على حصر المؤاخذة فيها؛ لأن الإنسان مؤاخذ على جميع تصرفاته، وإنما خصصها بالذكر لما سيأتي في:

الوقفة الثانية والعشرون: تخصيص هذه الثلاث بالذكر؛ نظرًا لعظم خطرها، ولأنها الآلات التي بها يحصل العلم النافع للعبد، وهو ما يميز الإنسان عن غيره من الحيوان؛ إذ إن العلم تدور رحاه على هذه الأقطاب الثلاثة: السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ[6]، والله تعالى أعلم.

هذه وقفات سريعة ومختصرة تتصل بهذه الآية العظيمة، ولعل الفرصة تسنح لإعادة كتابتها بشكل موسع، أسأل الله أن ينفع بها... وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

________________

[1]- الفتاوى: [16/96-97].

[2]- من المفيد مراجعة كلام ابن القيم في بيان عظم نعمة الله بالسمع والبصر على العبد. انظر: (مفتاح دار السعادة): [1/264-266]، [189-190]، طبع دار الكتب العلمية. وكتاب (أقسام القرآن) طبع دار المعرفة: [305]، [306]، [316]، [407].

[3]- في مسألة المؤاخذة على العزم المصمم على المعصية يراجع كلام شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في الفتاوى: [10/720-761].

[4]- الفتاوى: [9/307-309].

[5]- مجموع الفتاوى: [9/309-315].

[6]- الفتاوى: [16/96-97].
---------------
نقله لكم:
أبو لقمان الجزائري

مراقبة الله عز وجل

بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
محاضرة مفرغة للشيخ الدكتور: خالد بن عثمان السبت
بعنوان: مراقبة الله عز وجل

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد؛ فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

أيها الأحبة:

حديثنا في هذه الليلة عن موضوع يحتاج إليه الكبير والصغير والرجل والمرأة لا سيما في هذا الزمان الذي تكاثرت فيه الفتن وصار الإنسان يستطيع أن يصل إلى المنكر وهو في قعر بيته دون أن يشعر به أحد، وصار الإنسان أيضاً يستطيع أن يطوف في أنواع الضلالات والشبهات وينظر في العقائد الفاسدة والمواقع أو القنوات التي تبث الشبهات فتضلل الناس وتشكك الإنسان في عقيدته ودينه وهو في بيته بعد أن كان الناس لربما لا يستطيع الواحد منهم أن يصل إلى مطلوبه من ذلك إلا بألوان الاحتيال والصعوبات، ولربما تعجزه وتقعده الحيلة فلا يستطيع أن يحقق مطلوباً للنفس تشتهيه أو تهواه.

واليوم أيها الأحبة لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم، يجلس الرجل أو المرأة وهو في بيته يمكن أن يفعل ما يشاء، وأن ينظر إلى كل ما يريد، يمكن لهذا الإنسان أن يعاكس كل ما لا يرضاه الله تبارك وتعالى دون أن يشعر بذلك أحد من الناس.

أصبحنا أيها الأحبة نتقلب في فتن تجعل الحليم حيراناً، وأصبح كثير ممن جاوزوا سن ما يسمى بالمراهقة عادوا بعد ذلك إلى حال كان يجب أن ينزهوا أنفسهم عنها بعد اكتمال العقل والنضج وصار له من العيال ما يكون حاجزاً من أن ينظر إلى ما لا يليق أو أن يفعل ما لا يليق خوف العواقب السيئة التي لربما نزلت بأهل بيته، وكثرت الشكاية أيها الأحبة من الزوجات على الأزواج، انتكس كثير ممن كان يرتاد المساجد ويظهر عليه سيما الصالحين، انتكس على عقبه، والسبب أنه عرض نفسه للفتنة أولاً فلم ينجو منها آخراً.

ولذلك في مثل هذه الأوقات أيها الأحبة لا بد من الحديث عن مراقبة الله عز وجل وأن نكرر هذا الحديث يعظ به الإنسان نفسه حينما يتحدث ويعظ به إخوانه ويتردد ذلك في مجالسنا حيناً بعد حين؛ فإن هذه القلوب يحصل لها ما يحصل من أنواع الغفلة، والنفس شرود وقد ركبت في النفوس محبة الشهوات، كما أن الفتن خطافة، وقد يحمل الإنسان حب الاستطلاع على أن يرد موارد الهلكة فتعلق الشبه في قلبه ثم لا يستطيع بعد ذلك الخلاص منها، وأعرف من هذا أمثلة كثيرة فنسأل الله عز وجل أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا وأن يحفظنا وإياكم وجميع المسلمين من كل بلاء ومكروه.

أقول أيها الأحبة، الحديث عن المراقبة يتضمن قضايا متعددة:

أولها: في بيان حقيقة المراقبة.

والثاني: في منزلتها.

والثالث: في ذكر بعض ما ورد في هذا الباب في الكتاب والسنة.

والرابع: في أنواعها.

والخامس: في الطريق إليها.

والسادس: في ثمراتها.

والسابع: نماذج من أحوال أهل المراقبة.

أما حقيقتها أيها الأحبة؛ فهي من رقب، وهذه المادة تدل على انتصاب لمراعاة شيء، ومن ذلك الرقيب وهو الحافظ، ويقال المرقب للمكان العالي الذي يقف عليه الناظر فينظر من خلاله إلى ما يريد وقيل للرقبة التي في الإنسان رقبة لأنها منتصبة، ومن يريد أن ينظر أو يشاهد لا بد أن ينتصب عند نظره فيرفع رأسه وينظر إلى مطلوبه، والمرأة الرقوب هي التي لا يعيش لها ولد فكأنها ترقبه لعله يبقى، وفي أسماء الله عز وجل الرقيب وهو الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء كما سيأتي.

وأما حقيقة المراقبة في معناها الاصطلاحي فمما ذكر في ذلك ما ذكره الحافظ ابن القيم رحمه الله بأنها: "دوام علم العبد وتيقنهُ باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه، فاستدامتنا لهذا العلم هو المراقبة؛ إذا تيقن الإنسان أن الله ينظر إليه وأنه لا يخفى عليه شيء من أحواله هذا هو حال المراقبة؛ فهي: التعبد لله عز وجل باسمه الرقيب الحفيظ العليم السميع البصير الخبير الشهيد وما إلى ذلك من الأسماء.

يقول الحافظ ابن القيم رحمه الله في نونيته:
وهو الرقيب على الخواطر واللواحظ كيف بالأفعال والأركان
يعلم خطرات النفوس ولحظ العيون كيف بالحركات والأفعال الظاهرة.

وفي حديث جبريل عليه السلام أنه سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإحسان فقال: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» [رواه البخاري].

ومقام المراقبة أيها الأحبة جامع للمعرفة مع الخشية، فبحسبها يحصل مقام المراقبة إذا علم العبد أن الله تعالى يطلع عليه وخافه، فإن هذا الخوف مع علمه باطلاع الرب يقال له الخشية، فإذا اجتمع هذا وهذا كان ذلك تحصيناً لهذا المقام وارتقاء إلى هذه المرتبة، وبذلك ينكف العبد عن فعل ما لا يليق.

ثانياً: في الكلام على منزلتها.

المراقبة أيها الأحبة؛ أساس الأعمال القلبية كلها، وهي عمودها الذي قيامها به، وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم أعمال القلب وفروعها كلها في كلمة واحدة في الحديث السابق في الإحسان: «أن تعبد الله كأنك تراه» فهذا جامع لمقام الإسلام والإيمان والإحسان، «فإن لم تكن تراه فإنه يراك» ومن أهل العلم من يقول: "إنها مرتبة واحدة، أن تستشعر هذا المعنى أن تعبد الله كأنك تراه، وعليك أن تعلم أنك إن لم تكن تراه فإن الله يراك فهي مرتبة واحدة".

ومن أهل العلم من يقول هما مرتبتان:

الأولى: أن تعبده كأنك تراه، وهي الأعلى، فإذا لم يستطع العبد أن يحصل ذلك فإنه ينحط إلى المرتبة التي بعدها من مرتبتي الإحسان، وهو أن يستشعر أن الله يراه، وهذا هو اختيار الحافظ ابن القيم رحمه الله، فيعلم أن الله عز وجل مشاهد له مطلع عليه في ظاهره وباطنه وإذا تحقق العبد من هذا لم يكن التفاته إلى المخلوقين فيتزين لهم ويتصنع، ويكون محافظاً على حدود الله عز وجل في الجلوة، ويكون منتهكاً لحرماته في الخلوة، فإن هذا لم يراقبه.

وكثيراً أيها الأحبة لا يكاد يخلو يوم من سؤال يكتبه صاحبه برسالة يبعث بها يسأل عن عمل يستحي أن يسأل عنه مباشرة، وهذا من العجب يستحي أن يسأل مخلوقاً ضعيفاً لا يعرفه ومع ذلك يفعل ذلك والله تبارك وتعالى يراه ويطلع عليه والملك يشاهده ويكتب عمله، وقد قال أبو حفص لأبي عثمان النيسابوري رحمه الله: "إذا جلست للناس فكن واعظاً لقلبك ولنفسك ولا يغرنك اجتماعهم عليك فإنهم يراقبون ظاهرك والله يراقب باطنك".

ثالثاً: مما ورد من النصوص في هذا الباب.

الآيات والأحاديث في هذا كثيرة؛ فالله جل جلاله يقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [سورة آل عمران: 5].

{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سورة الحديد: 4].
{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [سورة غافر: 19].
{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [سورة البقرة: 235].
{وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا} [سورة الأحزاب: 52].
{أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَىٰ} [سورة العلق: 14].
وجاء في حديث معاذ رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله؛ أوصني"، قال: «اعبد الله كأنك تراه».

وجاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله...» [رواه البخاري]، وإذا نظرت إلى هؤلاء السبعة تجد أن الشيء المشترك والوصف الذي تحقق فيهم جميعاً هو المراقبة لله تبارك وتعالى.

الرجل الذي ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ما الذي جعله يكون بهذه المثابة؟ هو مراقبة الله، الناس لا يرونه، الرجل الذي دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، حصلت له المنعة مع وجود الدافع القوي فهي ذات منصب وذات جمال ونفسه تطلب هذه الشهوات ومع ذلك قال إني أخاف الله، والرجل الذي تصدق بيمينه حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه؛ هذا رجل قد راقب الله عز وجل وإلا فإن المال أيها الأحبة شيء محبب إلى النفوس ولا يسهل عليها أن تجود به إلا بطلب عوض أعظم واليقين عند عامة الناس عند كثير من الناس ضعيف، ولذلك فإن الكثيرين قد يصعب عليهم إخراج المال لله تبارك وتعالى، فكيف بهذا الذي أخفاه إلى هذا الحد حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه.

الشاب الذي نشأ في طاعة الله عز وجل مع قوة النوازع وتوقد الغرائز الذي منعه من ذلك هو مراقبة الله تبارك وتعالى، وهكذا أيها الأحبة.

وجاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار فيجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم الله وهو أعلم بهم؛ كيف تركتم عبادي؟، فيقولون: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون» [رواه البخاري]، فهل استحضرنا هذا المعنى، هل استحضره من يضيع صلاة الصبح ينام عنها ويضيع صلاة العصر حينما يأتي من عمله ثم بعد ذلك ينام.

رابعاً: في ذكر أنواع المراقبة.

يمكن أن تتنوع المراقبة أيها الأحبة إلى أنواع مختلفة باعتبارات متعددة، ولكن يمكن أن أقتصر على وجه من تنويعها، فأقول أيها الأحبة: المراقبة تكون قبل العمل، قبل أن تقدم على العمل ينبغي أن تسأل نفسك؛ هل لك فيه نية؟، ما ذا تريد بهذا العمل الذي تقوم به؟، حينما تريد أن تتصدق بصدقة هل هذه الصدقة تريد بها وجه الله أو أنك تجمع خسارة في الدنيا وعذاباً في الآخرة؟، إذا كان الإنسان ينفق من أجل أن يقال منفق، فيكون من أول من تسعر بهم النار يوم القيامة، هذا الإنسان الذي يريد أن يطلب العلم هل يريد أن يطلب هذا العلم من أجل أن يقال عالم، حينما يقوم الإنسان بمشروع من الأعمال الطيبة من إغاثة المنكوبين أو القيام على الفقراء والأرامل والأيتام، هذه أعمال جليلة، وتتطلب من الإنسان ألوان التضحيات، فينفق فيها وقته وجهده، ولربما لا يراه أهله إلا في قليل من الوقت، هل لك فيه نية، يسأل الإنسان حينما يريد أن يقدم على هذه الأعمال هل هو لله؟، هل للنفس فيه هوى؟، هل للشيطان فيه نزغة فيتثبت؟، فإن كان لله أمضاه، وإن كان لغيره صحح نيته وأخلص قصده وعمله، وفي هذا يقول الحسن البصري رحمه الله: "كان أحدهم إذا أراد أن يتصدق بصدقة نظر وتثبت، فإن كان لله أمضاه، ويقول: رحم الله عبداً وقف عند همه فإن كان لله مضى وإن كان لغيره تأخر".

وجاء عن محمد بن علي رحمه الله: "إن المؤمن وقاف ومتأنٍ يقف عند همه ليس كحاطب ليل. فلا يتسارع الإنسان في الأعمال في هذه الحياة الدنيا ولو كان ظاهر ذلك من الأعمال الصالحة حتى ينظر قبل أن يقدم عليه هل له فيه نية صحيحة أو لا".
تعرفون حديث الثلاثة الذين تسعر فيهم النار يوم القيامة أول الناس: هذا رجل عالم، وهذا رجل جواد، وهذا رجل قارئ للقرآن أو مجاهد في سبيل الله، فهذا جاهد ليقال شجاع، وهذا قرأ ليقال قارئ، أو تعلم العلم ليقال عالم، وهذا أنفق من أجل أن يقال جواد، فيدخل النار قبل السراق، والزناة، وأصحاب الجرائم، فالمسألة ليست بالشيء السهل، قد يتصور كثير من الناس أن الذين يُتوعدون بالعقوبة أنهم على خطر وخوف هم أولئك الذين يقارفون ما يقارفون من ألوان الشهوات الظاهرة؛ وما علم أن الشهوات الباطنة قد تكون أعظم وأشد من الشهوات الظاهرة، الإنسان أليس ينفق المال من أجل تحصيل المحامد، أليس الرجل قد يقدم في نحر العدو في شجاعة متناهية من أجل أن يقال شجاع، فيبذل نفسه من أجل قيلهم هذا، هذه أغلى ما يملكه الإنسان، النفس والمال.

لولا المشقة ساد الناس كلهم **** الجود يفقر والإقدام قتال
فيبذل الإنسان هذه الأمور التي هي أغلى ما يملك من أجل تحصيل شيء من حظوظ النفس الخفية، طلب المحمدة والسمعة، والرياء ، فليس الهالك هو ذلك الإنسان الذي يتبع ما يمليه عليه هواه من ألوان الشهوات من الفجور والمعاصي ومعاقرة الفواحش وما أشبه ذلك فحسب بل إن الهلكة تقع أيضاً في تلك النية المختلة الفاسدة التي لربما كان صاحبها يفطم نفسه عن ألوان المتع من النزه وأكل الطيبات والراحة والنوم والتمتع بألوان المتاع وهو يعمل ويكدح ويواصل الليل والنهار لكن ليس له في هذا نية، وقد ينتفع كثير من الناس ولكنه كالشمعة أو السراج الذي يضيء للآخرين ويحرق نفسه.

النظر الثاني هو أثناء العمل: يحتاج الإنسان إلى مراقبة لله عز وجل وهو يعمل، ونحن نصلي نراقب الله عز وجل في صلاتنا في ركوعنا وسجودنا وما نقوله فينا في صيامنا نراقب الله عز وجل لا نتكلم بكلام ينافي الصوم ولا نفعل فعلاً يخدشه، ونحن حينما نقوم بعمل من الأعمال الدعوية أو غير الأعمال الدعوية مما يحبه الله عز وجل ويرضاه أثناء العمل نصحح النية ونتابع فإن القلب كثير التقلب ولذلك قيل له الفؤاد والله أعلم لكثرة تفؤده وتوقده بالخواطر والأفكار والإرادات، يبدأ الإنسان بنية صحيحة ثم تجد قلبه يتقلب عليه، فيحتاج إلى ملاحظة دائمة أثناء العمل.

الذي يتكلم يلاحظ نفسه عند الكلام، والذي يعمل يلاحظ نفسه عند العمل، والذي يكون حتى في أعماله المباحة يلاحظ ويراقب نفسه عند القيام بهذا العمل المباح.

فالعبد أيها الأحبة إذا كان في طاعة يتفقد عمله هل جاء بأركانه وشروطه وواجباته وما أشبه ذلك.
إذا كان في معصية ينزجر وينكف ويتذكر نظر الله عز وجل إليه.

وإذا كان الإنسان في أمر مباح فإنه يشكر الله عز وجل على هذه النعم التي أولاه إياها، إذا كان يأكل يتفكر في هذا الطعام الذي يأكله كيف وصل إليه وكيف حرمه كثير من الناس وما يشتمل عليه هذا الطعام من ألوان العبر التي إذا نظر إليها الإنسان أحيت قلبه، هذا نظر أثناء العمل.

وهكذا أيضاً يتفقد الإنسان أوقاته؛ لأن الإنسان في هذه الحياة مبحر مسافر، كيف يقضيها، هذا اليوم منذ أن أشرقت شمسه ما هي المغانم والمكاسب التي حصلها فيه، في أربع وعشرين ساعة كان يمكن أن يقرأ ثمانية وأربعين جزءاً؛ فماذا قرأ، في هذه الأوقات كم يمكنه أن يصلي فيها من ركعة لله عز وجل، كم يمكنه أن يقرأ من صفحة في علم نافع، كم يمكنه أن يسبح من تسبيحة وأن يستغفر، فيفكر في هذه الأوقات التي تصرمت، منذ الليلة الماضية مثل هذا الوقت إلى الآن ما هي مكاسبنا؟، ماذا عملنا؟، هذه الإجازة قد انتصفت، ما الذي خرجنا به؟، ما هي الأعمال التي قمنا بها؟، الإنجازات التي حققناها كم تكافئ من أيام هذه الإجازة التي قد تصرمت؟، وهكذا أيها الأحبة يتفقد الإنسان دائماً نفسه وينظر في حاله وفي تقصيره وفي عمله حتى يلقى الله عز وجل وهو على يقظة دون أن يكون غافلاً فيخترمه الموت ثم بعد ذلك يندم ولا ينفعه الندم.

الأعمال التي يزاولها هل هذا هو الأفضل والعمر قصير أو أن هناك أعمالاً أفضل من هذه يمكن أن يتجر بها ويربح في تجارته مع الله جل جلاله.

وهكذا أيها الأحبة في كل شأن من شؤوننا، في الكلام؛ المجالس لربما كان الإنسان واعظاً، أو داعية، أو خطيباً، ويعلم الناس، ويبين لهم الأشياء التي يحتاجون إليها، يبين لهم حكم الغيبة، وإذا جلس في المجالس ينطلق لسانه في أعراض المسلمين، من غير أن يرعوي، ينبغي للإنسان أن ينظر في عمله فعلاً ولا يغتر ولا يظن أنه يمكن أن يجتاز الصراط بظاهر من التدين والله عز وجل يعلم حاله وما ينطوي عليه سره وقلبه وخبيئته.

هذه الأشياء الجميع يحتاج أن يراجع فيها نفسه، ولا يخلو أحد فمقل أو مستكثر، وقد قال بعضهم: "عالجت الصمت عما لا يعنيني عشرين سنة قبل أن أقدر منه على ما أريد"، وكان هذا الرجل لا يدع أحداً يغتاب أحداً في مجلسه، ويقول لجلسائه: "إن ذكرتم الله أعناكم وإن ذكرتم الناس تركناكم"، من منا يفعل هذا، إذا أراد أحداً أن يغتاب الناس قال له سبح، اذكر الله عز وجل، ولو كان هذا المغتاب من الصالحين من الخيرين، فإن حدود الله عز وجل لا يحابى بها أحد، فينبغي على الجميع أن يلتزم أمر الله تبارك وتعالى ويجتنب نهيه، وليس صلاح الإنسان في الظاهر، أو جهوده التي يبذلها في سبيل الله تبارك وتعالى تكون مسوغاً وسبباً لأن يفعل ما يريد.

خامساً: كيف نصل إلى المراقبة.

ما الطريق إليها؟

أقول: أول ذلك أيها الأحبة وهو من أعظمه أن نستحضر معاني الأسماء الحسنى التي تؤثر في هذا المقام والله تبارك وتعالى علمنا في هذا القرآن جملة طيبة كثيرة من أسمائه جل جلاله، وإنما ذلك من أجل أن نتعبده بهذه الأسماء.

فمن أسمائه التي تتعلق بهذا المعنى: الرقيب، وكذلك الحفيظ، والعليم، والخبير، والشهيد، والمحيط، واللطيف، إلى غير ذلك من الأسماء التي إذا أدرك العبد معناها وتعبد ربه بمقتضاها فإن ذلك يؤدي به إلى تحصيل مقام المراقبة.

فالرقيب هو الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء، الحفيظ الذي لا يغفل، العليم الذي لا يعزب عنه مثقال شيء من أحوال خلقه، يرى أحوال العباد ويحصي أعمالهم، ويحيط بمكنونات سرائرهم فهو مطلع على الضمائر، شاهد على السرائر، يعلم ويرى ولا يخفى عليه السر والنجوى {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ۖ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [سورة المائدة: 117]، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [سورة النساء: 1]، {وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا} [سورة الأحزاب: 52].

رقيب على كل الوجود مهيمن *** على الفلك الدوار نجماً وكوكبا
رقيب على كل النفوس وإن تلذ *** بصمت ولم تجهر بسر تغيبا
رقيب تعالى مالك الملك مبصر *** به كل شيء ظاهر أو محجبا

والمراقبة هي ثمرة علمه بأن الله سبحانه وتعالى رقيب عليه ناظر إليه سامع لقوله مطلع على عمله في كل وقت وحين، وفي كل نفس وفي كل طرفة عين، فإذا أرادت عينه أن تمتد إلى النظر إلى ما حرم الله عز وجل لامرأة يشاهدها ويراها في الطريق أو في الأسواق أو كان ذلك في شاشة فإنه يدرك ويعلم أن نظر الله إليه أسبق من نظره إليها فيخاف وينزجر وينكف، عن هذا النظر، وكان الإمام أحمد رحمه الله كثيراً ما يردد:

إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل *** خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا أن الله يغفل ساعة *** ولا أن ما تخفي عليه يغيب
لهونا عن الأيام حتى تتابعت *** ذنوب على آثارهن ذنوب
فياليت أن الله يغفر ما مضى **** ويأذن في توباتنا فنتوب

قال رجل لوهيب بن الورد رحمه الله: "عظني؟"، قال: "اتق أن يكون الله أهون الناظرين إليك".

وهذا للأسف قد نقع فيه، وإذا تتابعت الغفلة على قلب الإنسان فإنه قد يستحي من مخلوق ضعيف ولربما كان صبياً صغيراً أن يفعل ما لا يليق بحضرته ولكنه يفعل العظائم والله تبارك وتعالى يراه ويطلع عليه وينظر إليه.

ومن أسمائه تبارك وتعالى: الشهيد، وهو مشتق من الشهود بمعنى الحضور، وذلك يستلزم العلم.

فالله مطلع على كل الأشياء يسمع جميع الأصوات، خفيها وجليها، ويبصر جميع المبصرات دقيقها وجليلها صغيرها وكبيرها، وأحاط علمه بكل شيء، فهو شهيد أيضاً، يشهد على الخلق يوم القيامة بما علم وشاهد من أفعالهم {وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعْمَلُونَ} [سورة آل عمران: 98]، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} [سورة النساء: 33]، {وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا} [سورة النساء: 79].

والفرق بين الرقيب والشهيد: أن الرقيب فيه زيادة حفظ، فالشهيد مطلع شاهد ينظر إليه، وأما الرقيب فهو مطلع عليه يحفظ عمله الذي يزاوله ويعمله؛ فالله تبارك وتعالى رقيب شهيد، وهو كذلك أيضاً حفيظ.

والحفيظ له معنيان:

الأول: أنه حفظ أعمال العباد فلم يذهب شيء منها، كل ما يقوله الإنسان وكل ما يعمله محفوظ، سواء كان ذلك من قبيل الخير أو الشر، وهذا المعنى من حفظه تبارك وتعالى يقتضي إحاطة علمه بكل المخلوقات، وأنه كتب ذلك تبارك وتعالى في اللوح المحفوظ وفي الصحف التي بأيدي الملائكة، وعلم بمقادير هذه الأعمال والأشياء، فلم يفت عليه شيء من ذلك.

المعنى الثاني من معاني الحفيظ: أنه يحفظ عباده مما يكرهون، {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا} [سورة يوسف: 64].

يقول ابن القيم رحمه الله في الجمع بين هذين المعنيين:
وهو الحفيظ عليهم وهو الكفيل *** بحفظهم من كل أمر عاني
حفيظ عليهم: يحفظ أعمالهم، وهو الكفيل بحفظهم: يحفظهم من المكاره.

جل الحفيظ فلولا لطف قدرته *** ضاع الوجود وضل النجم والفلك
حتى القطيرةَ من ماء إذا نزلت *** من السحب لها في حفظها ملك

{إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [سورة هود: 57]، فمن علم أن ربه حفيظ؛ حفظ جوارحه وقلبه من كل ما لا يليق.
والعلم الحديث أيها الأحبة أثبت أنه يمكن استرجاع ما يصدر من الإنسان من الأصوات، يقولون إن كلام الإنسان يتحول إلى موجات هوائية وأن هذه الموجات تبقى كما هي في الأثير بعد حدوثه ومن الممكن أن تسترجع وأن تسمع مرة أخرى، يقول لكنا علومنا قاصرة لم تصل إلى هذا بعد، يقولون لو استطاع العلم أن يكتشف جهازاً يستطيع أن يلتقط هذه الأصوات التي قالها القائلون منذ أن خلق الله عز وجل آدم -صلى الله عليه وسلم- فإن ذلك من الناحية العلمية ممكن لكن يقولون لم نصل إليه بعد، ونحن نعلم يقيناً أن الله تبارك وتعالى قد أحاط بذلك كله وأن الله قادر على أن يسمع الناس كلامهم، وهو قادر تبارك وتعالى على أن يعيد لهم الصورة من جديد في العمل الذي يزاولونه، الله على كل شيء قدير، ولهذا فإن الله ينطق الجوارح وينطق الأرض، الأرض تحدث أخبارها، والجوارح تتكلم بما عمله الإنسان فيها.

ومن أسمائه تبارك وتعالى: المحيط. فالله رقيب، شهيد، حفيظ، محيط، وهذه الأسماء: الرقيب والشهيد والمحيط والحفيظ تشترك في صفة العلم، لكن الرقيب يفيد مع العلم الحفظ، والشهيد يفيد مع العلم الحضور، والمحيط يفيد مع العلم الشمول والإحاطة والقدرة.

ومن أسمائه تبارك وتعالى أيضاً: العليم.

{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [سورة الحديد: 4]، {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [سورة البقرة: 235].
والرب فوق العرش والكرسي *** لا يخفى عليه خواطر الإنسان
فمن علم أن الله تبارك وتعالى عالم بكل شيء، حتى بخطرات الضمائر ووساوس الخاطر فعليه أن يراقبه وأن يستحي منه وأن يكف عما لا يليق ولا يغتر بجميل ستره تبارك وتعالى وإنما يخشى بغتات قهره ومفاجآت مكره، قال الله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ الْقَوْلِ} [سورة النساء: 108]، {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ ۖ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [سورة الملك: 13]، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [سورة الملك: 14].

كل معلوم ففي علمك كان *** أنت محصيه زماناً ومكاناً
أنت سبحانك أدرى بالذي *** فيه ذرات نقاط وكياناً
أنت محصيها وهاديها إلى *** نشوة تسبيح قلباً ولساناً

إحاطة بجميع الغيب عن قدر *** أحصى بها كل موجود ومفتقد
وكلهم باضطرار الفقر معترف *** إلى فضائله في كل معتمد
العالم الشيءَ في تصريف حالته *** ما عاد منه وما يمض فلم يعد
ويعلم السر من نجوى القلوب وما *** يخفى عليه خفي جال في خلد

يقول سفيان الثوري رحمه الله: "عليك بالمراقبة مما لا تخفى عليه خافية، وعليك بالرجاء ممن يملك الوفاء".
ومن أسمائه تبارك وتعالى: الخبير.

وهو الذي يعلم بواطن وخفايا الأشياء، والارتباط بين العليم والخبير والشهيد لا يخفى؛ فإذا اعتبرنا العلم مطلقاً فهو العليم، وإذا أضيف إلى الغيب والأمور الباطنة فهو الخبير، وإذا أضيف إلى الأمور الظاهرة فهو الشهيد.

ومن أسمائه تبارك وتعالى: السميع والبصير.
يسمع الأصوات ويرى المبصرات، يسمع السر والنجوى، ويبصر ما تحت الثرى.

ومن أسمائه: المهيمن.
وهو الرقيب الحافظ لكل شيء، الخاضع لسلطانه كل شيء، فهو القائم على خلقه، الشهيد عليهم، {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [سورة الرعد: 33]، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [سورة آل عمران: 5].

ما شاء كان وما في الكون خافية *** تخفى على علمه بدأً ومنقلباً
إنا إليه أنبنا خاشعين له *** وجاعلين له من ذكره سبباً
فلا شيء في ملكه طوع إرادته *** بمستطيع خروجاً أينما ذهباً
جل الميهمن رباً لا شريك له *** وجل إن لم يهب شيئاً وإن وهباً

ومن أسمائه تبارك وتعالى: القريب.

{إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} [سورة هود: 61]، وقربه سبحانه وتعالى نوعان: قرب عام، وهو إحاطة علمه بجميع الأشياء، وهو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد.
والقرب الآخر قرب خاص بالداعين والعابدين {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [سورة البقرة: 186].

يقول عامر بن عبد القيس رحمه الله: "ما نظرت إلى شيء إلا رأيت الله تعالى أقرب إليه مني".
وسئل بعضهم عن المراقبة، فقال: "أولها علم القلب بقرب الله تعالى من العبد".

هذا السبب الأول الموصل إلى مقام المراقبة؛ أن نعرف معاني هذه الأسماء، وأن نتعبد الله تبارك وتعالى بمقتضاها.

السبب الثاني الذي يوصل إليها: هو أن نحقق مرتبة الإحسان.

أن نعبد الله عز وجل كأننا نراه، وإنما ينشأ ذلك من كمال الإيمان بالله وأسمائه وصفاته حتى يصير العبدُ بمنزلة كأنه يرى ربه تبارك وتعالى فوق سماواته مستوياً على عرشه، يتكلم بأمره ونهيه ويدبر أمر الخليقة، فينزل الأمر من عنده ويصعد إليه وتعرض أعمال العباد وأرواحهم عند الموافاة عليه كما يقول الحافظ ابن القيم رحمه الله.

الثالث من هذه الأسباب: هو كثرة ذكر الله عز وجل بالقلب واللسان.

وقد ذكر الحافظ ابن القيم في الوابل الصيب للذكر أكثر من مائة فائدة، وذكر العاشرة منها وهو أنه يورثه المراقبة حتى يدخله في باب الإحسان فيعبد الله كأنه يراه، ولا سبيل للغافل عن الذكر إلى سبيل الإحسان، كما لا سبيل للقاعد إلى الوصول إلى البيت الحرام، وأفضل الذكر كما هو معلوم ما تواطأ عليه القلب واللسان، ولو أردنا أن نوازن بين ذكر القلب وذكر اللسان، فلا شك أن ذكر القلب أفضل من ذكر اللسان بمجرده، لأن الإنسان قد يلهج بلسانه وقلبه في غاية الغفلة، فذكر القلب يثمر المعرفة، ويُهيج المحبة، ويثير الحياء، ويبعث على المخافة، ويدعو إلى المراقبة.

الأمر الرابع من الأمور التي توصل إلى مقام المراقبة: أن يحاسب الإنسان نفسه دائماً.

أن يلاحظ الأنفاس والخطرات، فلا يكون العبد من الغافلين.

جاء عن بلال بن سعد رحمه الله أنه قال: "لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى من عصيت".
قال ابن المبارك لرجل: "راقب الله تعالى"، فسأله الرجل عن تفسير ذلك فقال: "كن أبداً كأنك ترى الله".

وقال بعضهم: "إنما هي أرباح عيناك ولسانك وهواك وقلبك، فانظر عينيك لا تنظر بهما إلى ما لا يحل لك، وانظر لسانك، لا تقل به شيئاً يعلم الله خلافه من قلبك، وانظر قلبك لا يكن فيه غل ولا دغل على أحد من المسلمين، وانظر هواك لا تهوى شيئاً يكرهه الله عز وجل، فما لا تكن فيك هذه الأربع فالرماد على رأسك".
وقال آخر: "تعاهد نفسك في ثلاث مواضع، إذا عملت فاذكر نظر الله عليك، وإذا تكلمت فانظر سمع الله منك، وإذا سكت فانظر علم الله فيك".
وفؤادي كلما عاتبته *** في مدى الإجرام يبغي تعبي
لا أراه الدهر إلا *** لاهياً في تماديه فقد برح بي
يا قرين السوء ما هذا الصبا *** فني العمر كذا في اللعب
نفسي ما كنت ولا كان الهوى *** راقبي الله وخافي وارهبي

كان لبعض الأمراء وزير وكان هذا الوزير جالساً بين يديه وعند هذا الأمير بعض الغلمان وقوف بجانبه في ناحية من المجلس فلاحت من هذا الوزير نظرة إلى هؤلاء الغلمان لشيء عرض، ثم التفت إلى الأمير وإذا الأمير ينظر إليه، فخشي أن يظن الأمير أن الوزير ينظر إلى هؤلاء الغلمان الحسان لريبة، فما الذي حصل من هذا الوزير أيها الأحبة، جعل كلما حضر إلى مجلس هذا الأمير ينظر إلى تلك الناحية، ليوهم هذا الأمير، أنه إنما ينظر إليها لحول أو علة في خلقته، هذه في مراقبة مخلوق لمخلوق، أراد أن يمحو الصورة التي لربما وقعت في نظر أو في نفس هذا الأمير اتجاه هذا الوزير ليقول له لم أكن في ذلك اليوم أو في ذلك العام أنظر إليهم لريبة وإنما أنا هكذا أنظر إلى هذه الناحية خلقة، نظر مخلوق إلى مخلوق، فأين النظر إلى الله، أين مراقبة المعبود جل جلاله.

كأن رقيباً منك يرعى خواطري *** وآخر يرعى مهجتي ولسانيا
وقد كان لأحد الشيوخ تلامذة وكان يقدم ويفضل أحدهم وهم لا يدرون ما سبب ذلك، فتساءلوا عن سبب إيثاره وتفضيله لهذا التلميذ، فخرج معهم يوماً، ثم أعطى كل واحد منهم طائراً، وقال: ليعمد كل واحد منك بهذا الطائر إلى حيث لا يراه أحد، ثم يذبح هذا الطائر ويأتي، فذهبوا جميعاً وكل واحد ذهب إلى ناحية وذبح الطائر الذي معه وجاء، فجاء هذا التلميذ الذي كان يؤثره هذا الشيخ ومعه هذا الطائر لم يذبح، فقال له: "لِمَ لمْ تذبحه؟"، فقال: "قلت: حيث لا يراك أحد، فلم أجد مكاناً لا يراني الله عز وجل فيه"، فقال لهم: "لأجل هذا كنت أؤثره عليكم".

وكان لبعض الملوك مملوك وعبد يؤثره على غيره من خدمه ومماليكه، فكأن نفوسهم قد تحركت نحوه، وتساءلوا عن سبب هذا التفضيل، فبينما هو في سفر ومعه هؤلاء المماليك والخدم إذ لاحت من هذا الملك نظرة إلى جبل في قمته ثلج، فركب ذلك المملوك على فرسه وركضه حتى انطلق دون أن يشعر به أحد إلى ذلك الجبل وأحضر من ذلك الثلج وجاء به إلى هذا الملك ووضعه بين يده، فسأهله هذا الملك: "كيف عرفت أني أرغب هذا الثلج؟"، فقال: "رأيتك نظرت إليه"، فهو يلاحظ نظرات هذا الملك، فقال الملك لجلسائه وخدمه ومماليكه: "من أجل هذا كنت أؤثره، إنكم تلاحظون مطلوبات نفوسكم وهو يلاحظ نظراتي وخطراتي".

مخلوق ينظر إلى مخلوق آخر ينظر إليه، إذا حرك عينه اتجاه شيء قفز، وجاء به إليه، فأين نحن أيها الأحبة في معاملتنا مع الله تبارك تعالى، نعصي، ونقصر، وأحياناً ننقر الصلاة نقراً، ويصلي الإنسان بتثاقل، أين المحبة؟، وأين المراقبة؟، وأين التعبد لله عز وجل بمقتضى هذه الأسماء التي ذكرناها؟

يقول سفيان الثوري رحمه الله: "لو كان معكم من يرفع حديثكم إلى السلطان، أكنتم تتكلمون بشيء؟"، قالوا: "لا"، قال: "فإن معكم من يرفع الحديث".

وجاء عن آخر قال: "لو أن صاحب قدر جلس إليك، لكنت تتحرز منه، وكلامك يعرض على الله فلا تتحرز".

فالنفس أيها الأحبة تحتاج إلى محاسبة، وملاحظة، أن نحاسبها أعظم من محاسبة الشريك الشحيح لشريكه، فإذا أصبح الإنسان قال لنفسه: يا نفس؛ هذا يوم جديد قد أمهلك الله عز وجل، فلو أن نفس الإنسان خرجت، لتمنى ساعة أو لحظة، يسبح فيها تسبيحة، هذا يوم جديد، وإمهال جديد، فينبغي أن يُشْغَلَ بما يرضي الله تبارك وتعالى، لا أن يستزيد الإنسان من الغفلة، والإعراض، والتمادي في مساخط الله عز وجل حتى يفاجئه الموت.

سادساً: ما هي الثمرات والنتائج الطيبة التي تحصل لمن ربى نفسه على المراقبة واتصف بهذه الصفة، وبلغ هذه المراتب العظيمة.

أقول أول ذلك التأدب مع الله عز وجل، فهو يدرك أن الله يسمعه وأن الله يبصره، صفة الإنسان إذا جلس أمام الناس أيها الأحبة لربما راقبهم في كل حركة وفي كل سكناتهم، لو كان الإنسان يتصرف بتصرفات أيها الأحبة لا تليق، ثم اكتشف أن في هذا المكان كمرة، ما الذي يحصل؟، ولو كان هذا الإنسان يفعل بعض الأمور المباحة، لكنه لا يفعلها أمام الناس، ما الذي يحصل؟، لو كان هذا الإنسان يتكلم بكلام محرم لا يليق، مع امرأة لا تحل له، بفحش، ثم اكتشف أن هذا الكلام جميعاً يسجل ويسمع، ما الذي يحصل له؟، لو كان هذا الإنسان يجلس في غرفة، ويوجد فيها ما ينقل الصوت إلى مكان آخر وفي المكان الآخر أهله وقراباته ونحو ذلك وهو يتكلم مع زوجته، بكلام مباح، لا يقوله أمام الناس، كيف تكون حاله؟، فكيف بمن يتكلم بما لا يليق مما حرمه الله عز وجل والله يسمعه فلا يتأدب مع الله جل جلاله؟

الأدب مع الله عز وجل بأن نصون المعاملة معه فلا نشوبها بنقيصة، إذا صلى الإنسان يصلي صلاة لائقة أن يصون قلبه فلا يكون فيه التفات ولا تعلق بغير الله عز وجل، أولئك الذين يتعلقون بنظر المخلوقين وبثناء المخلوقين وإبراء المخلوقين؛ ماذا قالوا عن الحقل الفلاني وماذا قالوا عن المناسبة الفلانية وماذا قالوا عن الكلمة الفلانية وماذا قالوا، قلبه يعذب ويتشتت، وهكذا أيها الأحبة، أولئك الذي يتعلقون بالصور وأصحاب الصور، امرأة تتعلق بفتاة أو شاب يتعلق بمثله أو يتعلق بامرأة أو نحو ذلك، ولربما قال أحدهم لصاحبه كما ذكر بعضهم يسأل عن هذا: "أتمنى لو أني أحب الرسول صلى الله عليه وسلم كما أحبك"!!!، إلى هذا الحد، فهذه محبة مرضية قد يظن صاحبها أنها محبة لله وفي الله، هكذا أيضاً أن يلاحظ الإنسان إرادته فلا تتعلق إرادته بشيء لا يريده الله ولا يحبه ولا يرضاه منه فإذا وُجِدَت المراقبة أيها الأحبة فإن العبد تصلح أحواله في ظاهره وباطنه.

وقد قيل: أسرع الأشياء عظة للقلب وانكساراً له ذكر اطلاع الله بالتعظيم له، والمقصود أيها الأحبة أن المراقبة توجب صيانة الظاهر والباطن، فصيانة الظاهر بحفظ الحركات الظاهرة، وصيانة الباطن تكون بحفظ الخواطر والإرادات والحركات الباطنة، ومن الحركات الباطنة أيها الأحبة ضبط معرضة أمره وخبره، فيجرد الإنسان باطنه من كل شهوة وإرادة تعارض أمره، هذه مراتب عالية، أحياناً الإنسان في داخل نفسه قد يكره حكم الله عز وجل وتنفر نفسه منه وقد يتمنى في نفسه لو أن الله أباح له ذلك الأمر المحرم، أو أن الله يسر له ذلك ولربما كان في قلبه اعتراض على أقدار الله عز وجل، لماذا أنا فقير؟، لماذا أعمل دائماً وأكدح ولا أخرج بكبير طائل وفلان وفلان بعمل يسير يصلون إلى الأموال الطائلة والتجارات الكبيرة؟، هذا اعتراض على قدر الله عز وجل، فالله أعطى، أغنى وأقنى عن علم وبصر بالعباد لا يخفى عليه من شأنهم خافية.

وقد يصاب الإنسان ببلية بمكروه بمرض، فيعترض على الله تبارك وتعالى في نفسه، فيقول: أنا دائماً مبتلى، لماذا يحصل لي هذا الحادث الشنيع؟، وبهذه الطريقة؟، وتحصل لي هذه الكارثة، يحصل لي هذا البلاء وأناس فجرة لا يرعوون من معصية الله عز وجل يتقلبون بألوان العافية ونحن نتقلب في ألوان البلاء؟... هذا ما عرف الله عز وجل، ما عرف الله، لو عرف الله لعرف أن أهل البلاء هم أهل القرب من الله تبارك وتعالى، وأن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، وقد يعترض الإنسان على الله تبارك وتعالى فيما شرعه فيقول له اختيار مع الله وتقدم بين يدي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فيعارض النصوص برأيه وبعقله وهواه، ويرد الآيات والأحاديث بهذا العقل الفاسد، ولربما حمل النصوص على المحامل الصعبة والتأويلات البعيدة من أجل أن يوافق هواه أو من أجل أن يوافق هوى الآخرين.

فالإنسان إذا راقب الله عز وجل تأدب معه الأدب اللائق فاستقام ظاهره واستقام باطنه ولم توجد في قلبه محبة تزاحم محبةَ الله عز وجل ولا في قلبه شبهة تعارض خبره، وقد قيل: "من راقب الله في خواطره عصمه الله في حركات جوارحه".

ولما سئل بعضهم: "بما يستعين الرجل على غض بصره عن المحظورات؟"، قال: "بعلمه أن رؤية الله تعالى سابقة على نظره إلى ذلك المحظور".

كتب أحد الأشخاص رسالة طويلة يقول فيها: بأنه من المربين، وأنه قد ألقى درساً متكاملاً عن غض البصر، وذكر لي في هذه الرسالة جملة كثيرة من الكتب التي تحدثت عن غض البصر، المراجع، وقال: أعرف ذلك جميعاً، ومع ذلك أنظر يقول: باستمرار إلى الحرام ولا أستطيع أن أسيطر على نفسي، هذا الإنسان لو وصل إلى مقام المراقبة فعلاً لتغيرت الحال، لكن المشكلة التي نحتاج أولاً أن نعرفها أيها الأحبة؛ أننا نعرف كثيراً من المعلومات نسمع وقد نتكلم ولكن دون أن يكون ذلك متغلغلاً في قلوبنا وأعماقنا، وكأننا نتحدث أيها الأحبة أو نسمع أشياء ونحن لا نقتنع بها، ولذلك الناس كم يسمعون من خطبة في العام، ما يقرب من خمسين خطبة، أين أثر هذه الخطب عليهم، يسمعون عن أكل الحرام، يسمعون عن آفات اللسان، يسمعون عن النظر إلى الحرام، يسمعون عن كل هذه القضايا فينظر الإنسان في حاله وفي نفسه، الخطيب والمستمع حينما يخرج من المسجد هل خرج بحال جديدة؟، هل تغيرت حاله؟، هل خرج بعمل جديد؟، فنحن لا نعرف في كثير من الأحيان حقيقة ما يخالج نفوسنا من العلل، نحن نستطيع أن نوصف علل الآخرين، ولربما لو قلت لهذا الإنسان ونصحته وذكرته بالله بأنه يعاني من كذا وكذا وكذا لربما انقبض منك ونفر ويرى أنك قد جرحته وآذيته، هل هذا الإنسان عنده إرادة صادقة فعلاً بإصلاح النفس.

مراقبة الله تعالى في الخواطر أيها الأحبة سبب لحفظها في حركات الظواهر، فمن راقب الله في سره حفظه الله في حركاته في سره وعلانيته، إذا تحققت المراقبة في الناس أيها الأحبة فإن ذلك يكون زاجراً ورادعاً يحمل النفوس على ما يجمل ويحسن ويليق، وذلك لا يمكن أن يقارن بحال من الأحوال بحال المخلوقين حينما يلاحظون الرقيب من الخلق، الناس الذين يحترمون النظام، الناس الذي يتركون الجريمة خوفاً من العقوبة ولكنهم إذا تمكنوا تحولت حالهم إلى شيء آخر، هؤلاء أين هم ممن يراقب الله عز وجل وهو يعلم أنه إذا أخذ هذا الطمع اليوم سيدفع الثمن غالياً من حسناته، ولذلك فإنك تجد هذا الإنسان لو كان بيديه كنوز الدنيا ما مد يده عليها، وآخر كلما لاح إليه شيء واستطاع أن يأخذه أخذه ولو من المسجد، لماذا أيها الأحبة؟، هذا راقب الله؛ وهذا لم يراقبه ، هذا يعلم أنه سيحاسب وأن الله يرى ذلك وأن هذه المكاسب المحرمة أحياناً بالملايين.

وقد يعرض على هذا الإنسان إغراءات لرشى لربما تصل إلى الملايين وهو لربما لا يجاوز راتبه عشرة آلاف، ملايين في صفقة واحدة، برشوة، ومع ذلك يترك هذا لله عز وجل، لكن إذا كان لا يعرف ربه والحلال ما حل باليد، مثل هذا الإنسان سيقول هذه فرصة لا تعوض، ويتهم من ترك ذلك لله تبارك وتعالى بالغفلة والضعف والعجز وقلة العقل والقصور في النظر، حينما انطفأ الكهرباء في ليلة واحدة في نيويورك ماذا حصل؟، قبل سنين وكتبت عن ذلك الصحف، ألوان الجرائم من السرقات والاغتصاب، أشياء هائلة، أرقام فلكية، فقط ليلة واحدة ساعات انطفأ فيها الكهرباء تهافت الناس على المتاجر وعلى البيوت ينهبون ويسرقون، لأنهم علموا أن النظام لا يراقبهم، ولا يطلع على أفعالهم هذه، فحارس القانون أيها الأحبة قد يغيب وقوة الخلق قد تزول أو تضعف والحارس قد يغفل والقانون قد يؤول وقد يتحايل الناس عليه فيفعلون ما يريدون، لكن إذا ربينا الناس على مراقبة الله عز وجل فإنهم يكونون في مأمن بإذن الله تبارك وتعالى، مهما لاحت لهم الإغراءات والمطامع.

أولادنا أيها الأحبة؛ بل نحن قبلهم، أمام هذه الشهوات العارمة والفتن العظيمة إذا غاب الإنسان، هذا الولد إذا ربي على مراقبة الله عز وجل حينما يجلس منفرداً وأمامه الجهاز الذي لربما يعرض أكثر من ثلاثمائة قناة، وفي بعض تلك القنوات قد يشاهد كل شيء، إذا ربي على المراقبة فإنه يكون في مأمن، لا ينظر إلى شيء لا يحبه الله عز وجل ولا يرضاه، لكن إذا كان هذا الولد إنما يترك هذه الأشياء خوفاً من نظر أبيه فإذا خلا بمحارم الله عز وجل فلا تسأل، يثري ثرياً.

ولذلك أقول أيها الأحبة، الأب قد يموت، قد يغيب، قد يعجز، قد يضعف، قد يشيب، ثم بعد ذلك قد يسرح هؤلاء الأولاد في أودية الهلكة ويرتعون من هذه الشهوات، في هذه الشهوات، فنحتاج دائماً إلى أن نربي هذه المراقبة في نفوسهم من أجل أن نحافظ على إيمانهم وعلى حالهم مع الله عز وجل أن تكون على استقامة، ولا يخفى أيضاً أيها الأحبة ما بين الظاهر والباطن من الملازمة، استقامة الباطن إذا وجد الخوف من الله عز وجل واليقين بأن الله يرانا يستقيم الظاهر، فالظاهر أثر من آثار استقامة الباطن، كما أن استقامة الظاهر لا شك أنها تؤثر في استقامة الباطن.

وقد جاء عن المعتمن بن سليمان رحمه الله أنه قال: "إن الرجل يصيب الذنب في السر فيصبح وعليه مذلته"، مهما حاول الإنسان أن يتصنع أمام الآخرين، لا تحاول أن تذكر أعمالك عند الناس، لا تحاول أن تفهم هؤلاء الناس أنك تتصدق، أو أنك تقوم على مشاريع خيرية، لا تحاول أن تفهم هؤلاء الآخرين أن لك مساهمات دعوية أو أنك تكفل الأيتام، والأرامل، وما أشيه هذا، لا تحاول هذا، الذي تعمل من أجله يعلم بذلك وكفى، الناس مهما حاولت أن تتزين أمامهم فإن قلوبهم ترفض هذا الإنسان، إذا لم يكن له خبيئة من صدق وإخلاص مع الله تبارك وتعالى.
وقد قال أبو حازم رحمه الله: "لا يحسن عبد فيما بينه وبين الله عز وجل إلا أحسن الله فيما بينه وبين الناس، ولا يعور - أي يفسد - فيما بينه وبين الله عز وجل إلا عور فيما بينه وبين العباد، ولمصانعة وجه واحد أيسر من مصانعة الوجوه كلها، إنك إذا صانعت الله مالت الوجوه كلها إليك، وإذا أفسدت ما بينك وبين الله شنأتك الوجوه كلها".
يقول ابن الجوزي رحمه الله في هذا المعنى يقول: "نظرت في الأدلة على الحق فوجدتها أكثر من الرمل، ورأيت من أعجبها أن الإنسان قد يخفي ما لا يرضاه الله عز وجل فيظهره الله تعالى عليه ولو بعد حين وينطق الألسنة به وإن لم يشاهده الناس، وربما أوقع صاحبه في آفة يفضحه بها بين الخلق فيكون جواباً لكل ما أخفى من الذنوب، وذلك ليعلم الناس أن هنالك من يجازي على الزلل ولا ينفع من قدره وقدرته احتجاب ولا استتار ولا يباع لديه عمل"، يقول: "وكذلك يخفي الإنسان الطاعة فتظهر عليه ويتحدث الناس بها وبأكثر منها حتى أنهم لا يعرفون له ذنباً ولا يذكرونه إلا بالمحاسن ليعلم أن هنالك رباً لا يضيع عمل عامل"، يقول: "وإن قلوب الناس لتعرف حال الشخص وتحبه أو تأباه وتذمه أو تمدحه وفق ما تحقق بينه وبين الله تعالى فإنه يكفيه كل هم ويدفع عنه كل شر وما أصلح عبد ما بينه وبين الخلق دون أن ينظر إلى الحق إلا انعكس مقصوده وعاد حامده ذاماً"، ولهذا كان يقول في كتاب (اللطف في الوعظ): "إذا لم تخلص فلا تتعب لو قطعت سائر المنازل - يعني منازل الحج - لم تكن حاجاً إلا ببلوغ الموقف - يعني عرفة".
فأقول أيها الأحبة: كثير من الناس يحاول أن يظهر أمام المجتمع أمام الآخرين يطلب الشرف والمحمدة وأن يصدق في المجالس ولا يزيده ذلك من الله إلا بعداً وقلوب الخلق ترفضه، والخلوة لها تأثيرات تظهر في الجلوة، كم من مؤمن يحترم الله عز وجل في خلواته فيترك ما يشتهي حذراً من عقابه أو رجاءً لثوابه أو إجلالاً له فيكون بذلك الفعل طرح عوداً هندياً على مجمر فيفوح طيبه فيستنشقه الخلائق ولا يدرون أين هو.

أيها الأحبة، يقول أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "إن العبد ليخلو بمعصية الله تعالى فيلقي الله بغضه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر".

الثاني من أثارها وثمراتها: دخول الجنة.

وقد سئل بعضهم: "بما ينال العبد الجنة؟"، فقال: "بخمس: استقامة ليس فيها روغان، واجتهاد ليس معه سهو، ومراقبة لله تعالى في السر والعلانية، وانتظار الموت بالتأهب له، ومحاسبة نفسك قبل أن تحاسب".

الثمرة الثالثة: السعادة والانشراح.

هذا الإنسان الذي يراقب ربه تبارك وتعالى يكون قريباً منه، وإذا كان العبد قريباً من ربه فلا تسأل عن أنسه ولذته وسروره بمناجاة ربه تبارك وتعالى وبمعرفته، كما يقول الحافظ ابن القيم رحمه الله: "إن في القلب وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه فاقة لا يذهبها إلا صدق اللجأ إليه ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تذهب تلك الفاقة أبداً".

الثمرة الرابعة: السكينة والحياء والمحبة والخشوع والخوف والرجاء والتوكل، كلما اشتدت المراقبة أيها الأحبة المراقبة في قلب العبد أوجبت له من هذه المعاني الشيء الكثير، وذلك أن المراقبة هي أساس الأعمال القلبية وعمودها الذي قيامها به.

سئل بعضهم عن حاله في التوكل كيف حصلت هذه المرتبة؟، فقال: "على خصال أربع: علمت أن رزقي لا يأكله غيري فاطمأنت به نفسي، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتي بغتة فأنا أبادره، وعلمت أني لا أخلو من عين الله فأنا أستحي منه".

الخامس من ثوراتها: صحة الفراسة.

وقد قال بعضهم: "من عمر ظاهره باتباع السنة وباطنه بدوام المراقبة وكف نفسه عن الشهوات وغض بصره عن المحارم واعتاد أكل الحلال لم تخطئ له فراسة".

السادس من ثمراتها: إثار ما أنزل الله وتعظيم ما حرم الله وتصغير ما صغر الله.

السابع: حفظ الأوقات فلا تضيع سدى.
فمن تحقق في المراقبة خاف على فوات لحظة من ربه تبارك وتعالى.

سابعاً: السلف والمراقبة.

أذكر بعض النماذج، هذا عروة ابن الزبير -رضي الله عنه- خطب ابنة عبد الله بن عمر سودة وعبد الله بن عمر يطوف بالكعبة في الحج فلم يرد عليه، فقال عروة: "لو كان يريد لأجابني"، والله لا أعود إليه - يعني في هذا الشأن - يقول: "فسبقني إلى المدينة، فلما أتيتها قدمت المسجد فإذا هو جالس فيه، فسلمت عليه"، فقال: "قد ذكرت سودة"، فقلت: "نعم"، فسأله عن رغبته، هل لا يزال يرغب فيها في الزواج منها، فقلت: "نعم"، فقال: "إنك قد ذكرتها لي وأنا أطوف بالبيت أتخايل الله عز وجل بين عيني، وكنتَ قادراً على أن تلقاني في غير ذلك الموطن"، لاحظ ما رد عليه، نحن نطوف ماذا نصنع أيها الأحبة، الجوال والنظر والالتفات ولربما صدر من بعض أيضاً الناس ما لايليق مما حرمه الله عز وجل ويستحي الإنسان من ذكره في هذا المسجد.

ومرَّ ابن عمر رضي الله عنه براع في القصة المعروفة فقال: "هل من جزرة؟"، فقال: "ليس ها هنا ربها"، فقال ابن عمر: "تقول له أكلها الذئب؟"، فرفع رأسه إلى السماء وقال: "فأين الله؟"، فقال ابن عمر: "أنا والله أحق أن أقول أين الله"، فاشترى الراعي والغنم وأعتقه ووهبه هذه الغنم.

هذا عبادة بن الصامت كان جالساً مع أصحابه -رضي الله عنه- فأقبل الصنابحي، فقال عبادة: "من سره أن ينظر إلى رجل كأنما رقي به فوق سبع سماوات فعلم على ما رأى فلينظر إلى هذا من شدة مراقبته وتأدبه وخوفه وتحرزه".

كان الإمام أحمد رحمه الله يئنُّ في مرض موته، ذكر له أن طاووس بن كيسان قال: يكتب الملك كل شيء حتى الأنين فلم يئن أحمد رحمه الله حتى مات، إلى هذا الحد مع أن الأنين ليس بمحرم.

وهذا ابن دقيق العيد أيها الأحبة، يقول: "ما تكلمت بكلمة ولا فعلت فعلاً، إلا أعددت له جواباً بين يدي الله عز وجل"، ما تكلمت بكلمة ولا فعلت فعلاً؛ نعم كم مضى من أعمارنا؟، هل نحن كذلك؟، ولذلك أقول: نحن أيها الأحبة نحتاج إلى توبة، الداعية يحتاج إلى توبة، والعالم يحتاج إلى توبة، وطالب العلم يحتاج إلى توبة، والإنسان الذي يقول عن نفسه أو يقول عنه الآخرون بأنه ملتزم ومتدين يحتاج إلى توبة، من منا أيها الأحبة ما قال كلمة ولا فعل فعلاً إلا أعد له جواباً بين يدي الله تبارك وتعالى.

فنسأل الله أيها الأحبة أن ينفعنا بما نسمع وأن لا يجعل ذلك حجة علينا، كما نسأله تبارك وتعالى أن لا يمقتنا، نسأله تبارك وتعالى أن يتجاوز عنا وأن يعفو عنا وأن يجعل ما نقول عظة لنا وسبيلاً إلى صلاح قلوبنا وأحوالنا وأعمالنا، فنحن نستغفر الله عز وجل أيها الأحبة من كثرت ما نتكلم ومن كثرت ما نسمع على قلة العمل، فينبغي أن يكون لنا طريقة أخرى في حالنا مع الله تبارك وتعالى وفي النظر إلى أعمالنا، دعك مما يقوله الناس فإنهم ينظرون إلى ظاهرك والله عز وجل ناظر وعالم لباطنك.

هذا ختام ما أردت أن أذكره في هذا المجلس، وأسأل تبارك وتعالى أن يعينني وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.

أسأل الله الإخلاص في الظاهر والباطن.

قام بتفريغها:
أحد طلبة العلم
يرجو الدعاء له ولوالديه
---------------------
نقله لكم:
أبو لقمان الجزائري